مقال أدبي ـ فلسفي: التفاهة حين تصبح وطناً

 

 مقال أدبي ـ فلسفي: التفاهة حين تصبح وطناً

مدخل: حين تصير الرداءة نظاماً لا استثناء

   كتاب "نظام التفاهة" (La médiocratie) هو عمل نقدي شهير للمفكر والفيلسوف الكندي آلان دونو (Alain Deneault)، صدر بالفرنسية سنة 2015 وترجم لاحقًا إلى العربية.

🔹 الفكرة الأساسية

   يرى دونو أن عالمنا المعاصر تحكمه "التفاهة" أو "المتوسطية"، حيث يتم إقصاء الكفاءات والعمق الفكري والأخلاقي لصالح أشخاص ومنظومات متواضعة الفكر، لكنهم بارعون في خدمة السلطة والسوق. في هذا "النظام"، النجاح لا يتطلب عبقرية أو فضيلة، بل القدرة على الانسجام مع الرداءة السائدة والامتثال لقواعد لعبة تافهة.

🔹 أبرز محاور الكتاب

1.  التفاهة كمنهج عالمي: لم تعد التفاهة مجرد حالة فردية، بل أصبحت نظامًا شاملاً يوجّه السياسة والاقتصاد والثقافة.

2.  السياسة: يتم تلميع شخصيات متواضعة الفكر لتقود دولًا، لأن المطلوب منها فقط تنفيذ سياسات مرسومة مسبقًا.

3.  الاقتصاد: الشركات العملاقة تعطي الأولوية للمطاوعة والامتثال لا للإبداع، فتتم ترقية الموظف "المطيع" لا "المبدع".

4.  الثقافة والإعلام: يُستبعد التفكير النقدي ويُستبدل بسطحية الترفيه، فتُصنَع جماهير مشغولة بالتفاصيل التافهة بدل القضايا الجوهرية.

5.  التعليم والجامعة: يُفصّل التعليم لإنتاج موظفين وموائمين مع السوق، لا مثقفين أحرارًا أو باحثين ناقدين.

🔹 الرسالة

    يحذّر دونو من أن هذا النظام يؤدي إلى قتل الطموح الإنساني الكبير وإضعاف القيم الفكرية والإنسانية، ليُحاصر الناس داخل دائرة "الحد الأدنى" من الطموح والمعرفة. وهو يدعو القارئ إلى الوعي والمقاومة، وإلى استعادة قيمة العمق والجدية والنقد في حياتنا اليومية.

 باختصار: "نظام التفاهة" ليس مجرد كتاب في الفلسفة أو السياسة، بل هو جرس إنذار عن انحدار العالم إلى منطق الرداءة، وكيفية إفراز سلطات ومنظومات لا تريد سوى مواطنين مطيعين بلا فكر أو موقف. يتحدث الكتاب عن عالمٍ صار فيه النجاح مرهونًا بالقدرة على الانسجام مع الرداءة، لا بامتلاك الكفاءة أو الرؤية. ولكن ما أراده وصفًا عامًا للغرب، نراه في الشرق الأوسط لوحة أكثر فجاجة وأشد مرارة. فهنا، لا تُقصى العقول وحسب، بل تُمحى عمداً، وتُستبدل بوجوه صغيرة تُجيد فن البقاء في الظل، مطيعةً، خانعةً، ومؤهلة لخدمة منظومة الفساد.

السياسة في العراق: لعبة التوازنات الصغيرة

السياسة في الغرب ـ كما يقول دونو ـ فقدت بريق المبادئ وصارت إدارة تقنية للمصالح. أما في العراق، فقد تحوّلت إلى بازار تُباع فيه المناصب وتُشترى الولاءات. السياسي لا يُقاس بقدرة على صياغة مشروع، بل بمهارته في مقايضة الشعارات، في تزيين الطائفية بلبوس الوطنية، وفي حمل مفاتيح الخزائن لا مفاتيح المستقبل. وهكذا صارت الدولة أشبه بمسرح تُدار كواليسه بيد صغار اللاعبين، بينما يجلس الوطن نفسه في مقاعد المتفرجين.

الاقتصاد: من نعمة النفط إلى لعنة الغنيمة

    يقول دونو إن الشركات الكبرى تكافئ المطيعين. أما نحن فابتكرنا نسخة أكثر مرارة: لا طاعة ولا إبداع، بل مجرد قرب من "الجهة النافذة". صار النفط، الذي يفترض أن يكون باباً للنهضة، لعنة تفتح أبواب الفساد، وتحوّل الثروة إلى غنيمة، والوظيفة إلى عطية، والاقتصاد إلى شبكة ولاءات. هنا لا يُكافأ المنتج أو المبدع، بل يُقصى، ليُفسح المجال للذي يُتقن لغة الولاء، والجلوس بصمت على مائدة الرداءة.

الثقافة والإعلام: صناعة الوهم وتزييف الوعي

في الغرب، تُدار التفاهة عبر ترفيه يسطّح الوعي. أما في الشرق الأوسط، فالإعلام لا يكتفي بالسطحية، بل يغذّي الكراهية، يزرع الانقسام، ويُسكت كل صوت ناقد. المثقف الذي يحلم بوطن جامع يصبح غريبًا في بلده، بينما تُفتح الشاشات للوجوه التي تُعيد تدوير الشعارات، وتبيع الناس أوهامًا مطلية بلون الدين أو العرق. هكذا يتحوّل الإعلام إلى معمل لإنتاج الوعي الزائف، حيث تُستبدل الحقيقة بالهتاف، والفكر بالنزاع، والعقل بالتحشيد.

التعليم: حين يُقتل العقل مرتين

  التعليم، الذي كان نافذة نحو الحرية، صار في العراق بوابة للإحباط. المناهج متخشبة، والجامعات تخرّج جيوشاً من العاطلين. الطالب الذي يدخلها شغوفاً بالحياة يخرج منها محبطًا، محاصرًا بين بطالة قاسية وواقع سياسي لا يعترف بقيمة العقل. إنها جريمة مزدوجة: قتل للعقل عبر التعليم الرديء، وقتل للأمل عبر التهميش والبطالة. وهكذا يُستنزف المستقبل في لحظة الحاضر.

التفاهة كمنظومة حياة لا مجرد ظاهرة

   التفاهة عندنا ليست مجرد حالة، بل هي هواء نتنفسه، ونظام يفرض نفسه في تفاصيل الحياة. في الغرب، الرداءة تُدار بلطف عبر السوق والإعلانات؛ أما عندنا فهي تُفرض بفظاظة عبر الطائفية والفساد والسلاح. النتيجة في الحالتين واحدة: تغييب الإنسان الحر، وصعود كائنٍ صغير لا يرى أبعد من ظلّه. 

خطاب إلى العراقيين والعرب: لا للتفاهة… نعم للكرامة

أيها الأصدقاء،

   أخطر الطغاة ليسوا من يكمّمون الأفواه بالقوة، بل من يبنون عالمًا من الرداءة يجعلنا نقبل بالقليل ونرضى بالتفاهة. العراق والشرق الأوسط يعيشان اليوم في أسر هذه المنظومة، التي تُغلق أبواب المستقبل وتحوّل الحلم إلى مجرد ذكرى.

لكنّ الخيار بأيدينا:

  • أن نقول "لا" لهذه الرداءة، وأن نعيد للمواطنة مكانتها فوق كل هوية ضيقة.
  • أن نعيد للجامعة دورها منارةً للحرية، لا مصنعاً للبطالة.
  • أن نُخرج الإعلام من عباءة الزيف، ليعود صوتًا للحقيقة لا بوقًا للانقسام.
  • أن نؤمن أن التغيير يبدأ من كل فرد يرفض أن يعيش أسيرًا في قفص التفاهة.

فلنرفع صوتنا عاليًا:
"
لا للتفاهة… نعم للكرامة، نعم للوعي، نعم للحرية."

خاتمة: الوعي هو الخطوة الأولى للمقاومة

   قد لا نستطيع أن نغيّر العالم دفعة واحدة، لكننا نستطيع أن نغيّر وعينا به. وهذا هو السلاح الأول ضد التفاهة. فحين ينهض الوعي، تسقط الأقنعة، وتنكشف الرداءة مهما تجمّلت. والعراق، الذي علّم الدنيا معنى الحضارة، لن يبقى أسيرًا في مسرح الصغار، إن قرر أبناؤه أن يستعيدوا المعنى من براثن اللا معنى.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية