هل ماتت الأندلس فعلًا؟ بين التاريخ الحي والذاكرة المنفية

 

هل ماتت الأندلس فعلًا؟ بين التاريخ الحي والذاكرة المنفية

بقلم: عدنان الطائي

نبذة تاريخية لبلاد الاندلس

 الأندلس هو الاسم الذي أطلقه المسلمون على المناطق التي حكموها في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال حاليًا) بعد فتحها في القرن الثامن الميلادي بقيادة طارق بن زياد وهزيمة ملك القوط لذريق في معركة وادي لكة. تبعه القائد موسى بن نصير الذي استكمل الفتح وأسس الحكم الإسلامي في معظم مناطق إسبانيا. كانت الأندلس ولاية تابعة للدولة الأموية في دمشق. بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق، فرّ عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وأسس هناك دولة أموية مستقلة حكمت ما بين (756–1031م) في عهد عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر، بلغت الأندلس أوج قوتها وازدهارها في قرطبة التي أصبحت من أعظم مدن أوروبا علمًا وثقافة. بعد تفكك الخلافة الأموية في الأندلس، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة متنازعة، مما أدى إلى ضعف شديد ودخولها ما يسمى بعصر ملوك الطوائف (1031–1090م) ثم عصر المرابطين والموحدين (1090–1212م) ثم بدأة مرحلة الانحسار وسقوط الأندلس (1212–1492م)، بدأت المدن الإسلامية تتساقط تباعًا أمام الممالك المسيحية (قشتالة، أراغون...). وكان اخر معقل إسلامي في الاندلس قد سقط هو قوط غرناطة سنة 1492م وانتهى بذلك الحكم الإسلامي الذي دام نحو ثمانية قرون..

     ومن هنا ينطلق سؤال عميق وجريء، ويطرح قضية من أعقد قضايا التاريخ: هل الفتح الإسلامي للأندلس كان استعمارًا أم نشرًا للدين؟ وهل كان الأمويون محتلين؟
وهل ان الشخصية المحورية في "تحرير الأندلس" وفق الرواية المسيحية، هي القديسة إيزابيلا الكاثوليكية، التي تُعتبر رمزا دينياً وسياسياً هاماً في الذاكرة الإسبانية؟ فلابد ان نضع النقاط على الحروف بموضوعية تاريخية وحيادية فكرية. 

 أولاً: من هي القديسة إيزابيلا الكاثوليكية؟

 إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة (1451–1504) كانت زوجة الملك فرناندو الثاني ملك أراغون. شكلت مع زوجها تحالفًا سياسيًا ومسيحيًا هدفه "استعادة" شبه الجزيرة الإيبيرية من المسلمين فيما سُمِّي بـ"حروب الاسترداد" (La Reconquista). وفي سنة 1492، سقطت غرناطة، آخر معقل إسلامي كما قلنا، بين يديهم، واعتُبرت إيزابيلا بطلة قومية ومقدسة في التاريخ الإسباني. أسست مع زوجها محاكم التفتيش، ونظما لطرد اليهود والمسلمين أو إجبارهم على التنصير. وحاليا يوجد لها كنيسة تمجدها في غرناطة، وتُحتفل بها كمحررة وموحدة للممالك الإسبانية.

 ثانيًا: هل المسلمون كانوا فاتحين أم مستعمرين في الأندلس؟

هذه المسألة مرتبطة بالزاوية التي يُنظر منها للتاريخ:

- من المنظور الإسلامي:

   يُنظر إلى دخول المسلمين على أنه فتح ديني وسياسي ضد مملكة القوط التي عُرفت بالظلم والاضطهاد. وان طارق بن زياد دخل بطلب من أطراف محلية متصارعة داخلية (وفق بعض الروايات). ولم يُفرض الإسلام بالقوة؛ بل عاش اليهود والمسيحيون في ظل الحكم الإسلامي أحيانًا في وضع أفضل مما عاشوه تحت القوط.

- من المنظور المسيحي القومي والحديث الغربي:

  يُصوَّر دخول المسلمين على أنه غزو خارجي من عرب وبربر شمال إفريقيا. ويُستخدم وصف "الاحتلال الإسلامي" في الكتب الأوروبية الحديثة. ويُحتفل بـ"تحرير" إسبانيا من الاحتلال الإسلامي، كما تفعل الكنيسة الإسبانية في تمجيدها لإيزابيلا وفرناندو. 

-  من منظور أكاديمي حيادي:

   المسلمون أسسوا دولة دامت 8 قرون، وهو زمن لا يمكن مقارنته بمستعمرات تقليدية كالكولونيالية الحديثة. وتعايشت في الأندلس ثقافات وأديان، وحدث تطور علمي وعمراني لا يمكن نكرانه. فلو كانوا غزاة فقط، لما استمر وجودهم قرونًا، ولما تركوا هذه البصمة الثقافية الهائلة.

 ثالثًا: هل الأمويون كانوا محتلين؟

   تاريخيا ان الأمويين فرّوا من المشرق بعد سقوط دولتهم في دمشق، وأسسوا دولة أموية جديدة في الأندلس. وان عبد الرحمن الداخل لم يدخل بجيش احتلال، بل وحّد العرب والبربر وأسس إدارة مستقرة. لذلك لم تكن سياستهم استعمارية، بل حاولوا الانفصال عن الخلافة العباسية وإقامة نظام مستقل. ورغم الصراعات، فقد بنوا حضارة ومدن ومدارس، وتركوا أثرًا غير استغلالي.

خلاصة القول: يمكن ان نحصر نشاءة الأندلس بين الفتح والتحرير ضمن قراءة حيادية في زمن الانقسام.. حين نفتح كتاب التاريخ، لا نبحث عن المنتصر، بل عن الحقيقة. وبين صفحات الأندلس، نقف أمام سؤالين مؤلمين ومثيرين: هل دخل المسلمون فاتحين أم محتلين؟ وهل كانت إيزابيلا محررة أم مقدسة بالدم؟

   يبدو تاريخيا ان دخل المسلمون الأندلس عام 711م بقيادة طارق بن زياد. سُمي ذلك فتحًا في الأدبيات الإسلامية، وغزوًا في السرديات الأوروبية. لكن ما لا يمكن إنكاره أن هذا "الفتح" أدى إلى قيام حضارة عمرت لثمانية قرون، لم تكن قائمة على السلب بل على البناء. فنجد ان قرطبة، غرناطة، إشبيلية… كانت منارات علم وفن وطب وفلسفة، لم تكن مستعمرات، بل أوطانًا سكنها العرب والبربر والإيبيريون، وتلاقحت فيها الأديان. حين أسس عبد الرحمن الداخل الدولة الأموية في الأندلس، لم يكن فاتحًا غازيًا، بل لاجئًا سياسيًا بنى دولة مستقلة عن العباسيين، حاول فيها الحفاظ على وحدة البلاد وتقدمها، وليس استنزافها. فهل هذا استعمار؟ إذا كانت الحضارة واللغة والطب والهندسة استعمارًا، فليُراجع العالم مفاهيمه. في المقابل، بعد قرون من الانحسار الإسلامي، ظهر ما سُمي بـ"الاسترداد" المسيحي، والذي تُوج بصعود الملكة إيزابيلا الكاثوليكية وزوجها فرناندو. سنة 1492 سقطت غرناطة، واحتُفلت إيزابيلا "قديسة" في الذاكرة المسيحية. لا تزال الكنائس تُمجّدها حتى اليوم، وتُصوّر على أنها "محررة إسبانيا من الوثنية الإسلامية". لكن هذا "التحرير" كان بداية لعصر ظلامي من التنصير القسري، ومحاكم التفتيش، وطرد مئات الآلاف من المسلمين واليهود. فهل كانت إيزابيلا "مقدسة"، أم منفذة لسياسة تطهير عرقي وديني؟

      إذن لا يوجد شعب يقيم حضارة في أرضٍ لثمانية قرون ثم يُقال له: "كنتَ مستعمرًا". ولا يمكن اعتبار طرد المسلمين واليهود، وحرق كتبهم، تحريرًا حضاريًا. فان التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم... بل يكتبه الوعي الحر الذي يرى الصورة كاملة، دون عدسة الدين ولا سيف السلطة.

 ختاما ان الأندلس لم تكن مجرد أرض غزو أو تحرير، بل ساحة تعايش وصراع، علم ودم، حضارة وانقسام. والذين يسألون: من هو الغازي ومن هو المحرر؟ عليهم أن يسألوا أولًا: من الذي بنى، ومن الذي أحرق؟ ومن الذي دعا إلى التعدد، ومن الذي أقام محاكم التفتيش؟ في النهاية... ليست المسألة فيمن دخل أولاً، بل من ترك أثرًا لا يزال ينبض بالحياة، رغم أنف النسيان.

   فعبارة (الأندلس لا أهل فيها) تتردد كأنها مرثية لحضارة أُزهقت أرواحها، ومُسحت ملامحها، وتلاشت بين أزقة قرطبة وأطلال غرناطة. فهل فعلاً انتهت الأندلس؟ أم أن روحها لا تزال تتنفس في جدران القصور، وفي حروف اللغة، وفي أعماق الهوية التي حاولت محاكم التفتيش أن تدفنها تحت ركام الخوف والتزوير؟ ففي البداية كانت أرض اللقاء بين الشرق والغرب.. أصبحت الأندلس قبلة للعلم والمعمار، ومركز إشعاع ثقافي في أوروبا القرون الوسطى. ازدهرت قرطبة، وبلغت غرناطة أوج جمالها، وساد فيها التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود. فهل الأندلس بلا أهل؟ التاريخ يجيب: لا. لا تزال آثار الحضارة الإسلامية ماثلة للعيان في عمارة قصر الحمراء، وزخارف مسجد قرطبة، وأسماء المدن والأنهار التي تحمل جذورًا عربية. وهناك في إسبانيا اليوم أحفاد الموريسكيين الذين بدأ بعضهم يكتشف أصوله الإسلامية المخفية. وان اللغة الإسبانية نفسها تحتوي على أكثر من 4000 كلمة ذات أصل عربي.

    ما مات في الأندلس سوى السلطة السياسية، أما الهوية الحضارية فهي باقية في روح المكان، في الشعر الذي كتبه ابن زيدون، في هندسة الزخرفة، وفي لحن العود الذي ظل حيًا. الأندلس ليست مجرد إقليم، بل رمز لمعركة كبرى بين الذاكرة والنسيان، بين القهر الثقافي والتعدد الحضاري.

     لن تموت الأندلس ما دام هناك من يروي حكايتها، ويكتب عنها، ويبحث في كتبها القديمة، ويقرأ سطور التاريخ لا من منظور المنتصر، بل من عين الإنسان الباحث عن النور، حتى في أحلك العصور. فالأندلس ليست خالية من أهلها... بل هي خالية ممن يتذكر من هم أهلها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية