القطيعة الإبستمولوجية والدين في ضوء الفكر الماركسي: نحو قراءة معرفية نقدية

 

القطيعة الإبستمولوجية والدين في ضوء الفكر الماركسي: نحو قراءة معرفية نقدية

المقدمة

شهد الفكر العربي المعاصر اهتمامًا ملحوظًا بمفاهيم فلسفة العلم، ولا سيما مفهوم "القطيعة الإبستمولوجية"، الذي طوّره الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، بوصفه نقطة تحوّل في بنية المعرفة العلمية لا تقوم على التراكم، بل على الانفصال النقدي. وقد جرى توظيف هذا المفهوم في ميادين معرفية شتى، من بينها تحليل الفكر العربي الإسلامي، والفكر الديني، والفكر الأيديولوجي، بوصفه أداة لفهم الانتقالات المعرفية الحاسمة في التاريخ. وفي خضم هذا السياق، يبرز تساؤل مركزي حول كيفية مقاربة الدين من زاوية إبستمولوجية، خاصة في ظل قراءات الفكر الماركسي، الذي غالبًا ما يُساء فهمه بوصفه فكرًا معاديًا للدين، في حين أن حقيقته تنطوي على موقف نقدي اجتماعي تجاه توظيف الدين، لا رفضًا لمضمونه الروحي أو الإيماني. يتناول هذا البحث العلاقة بين القطيعة الإبستمولوجية وموقع الدين في الفكر الماركسي، محاولًا تقديم قراءة معرفية نقدية تنأى عن الأحكام الإيديولوجية الجاهزة، وتفتح المجال لإعادة النظر في فهم الدين بوصفه بنية فكرية واجتماعية قابلة للنقد والتأويل وليست اجاباته خاتمة.

أولًا: القطيعة الإبستمولوجية – المفهوم والمنهج

ترتكز القطيعة الإبستمولوجية، وفق غاستون باشلار، على أن تطور المعرفة العلمية لا يتم عبر التراكم البسيط، بل عبر تجاوزات نوعية تقطع مع أنماط التفكير السابقة. هذا الانقطاع لا يعني تجاهل ما سبق، بل استيعابه ونقده وتخطيه نحو نمط جديد من الفهم. في السياق العربي، استثمر المفكر محمد عابد الجابري هذا المفهوم في مشروعه "نقد العقل العربي"، مميزًا بين ثلاث بنى معرفية في التراث العربي الإسلامي: البيانية، والبرهانية، والعرفانية. ودعا إلى إحداث قطيعة مع البنية البيانية والعرفانية، وإعادة الاعتبار للعقل البرهاني، القائم على المنطق والنقد والبرهان. تكمن أهمية القطيعة الإبستمولوجية في كونها عملية تحرير للوعي من أسر البنى الفكرية الجامدة، ودعوة لفتح أفق المعرفة نحو تعددية منهجية، دون الوقوع في النسبية المطلقة أو إنكار جذور المعرفة. 

ثانيًا: الدين في الفكر الماركسي – من الموقف الأيديولوجي إلى النقد المعرفي

    لقد شكل الدين محورًا مركزيًا في التحليل الماركسي للواقع الاجتماعي، لا بوصفه ظاهرة ميتافيزيقية، بل بوصفه تعبيرًا عن بنية اقتصادية واجتماعية محددة. في أشهر مقولاته، وصف ماركس الدين بأنه "تنهيدة المخلوق المضطهد، وقلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها... إنه أفيون الشعب". هنا لا يدعو ماركس إلى القضاء على الدين بالإكراه، بل يرى أن زوال الظروف التي تنتجه – من استلاب وفقر وظلم – سيؤدي تلقائيًا إلى تراجعه. فالدين، وفق الرؤية الماركسية، يُفهم من خلال الشروط التاريخية التي أنتجته، وهو شكل من أشكال الوعي الزائف حين يُستخدم لتبرير القهر. لكن من المهم أن نُميّز بين نقد ماركس للدين كمؤسسة أيديولوجية، وبين موقفه من الإيمان الروحي. فالماركسية لا ترفض الإيمان بحد ذاته، بل ترفض توظيف الدين في خدمة الطبقة الحاكمة، كما حصل في تحالف الكنيسة مع الإقطاع في أوروبا، أو مع الأنظمة الاستبدادية في العالم الحديث.

ثالثًا: الأبستمولوجيا الماركسية والدين – تفكيك الخطاب لا محو المقدس

الأبستمولوجيا في السياق الماركسي تنظر إلى الدين باعتباره بنية فكرية – رمزية، تُنتج وتُعاد إنتاجها داخل شروط اجتماعية محددة. وبذلك، فهي تدعو إلى:

1.  تفكيك الخطاب الديني، بوصفه منظومة تحمل في طياتها مصالح طبقية أو سلطوية.

2.  تحليل الدين تاريخيًا، بعيدًا عن التقديس المطلق أو النفي العدمي.

3.  فهم الدين كبنية لغوية ورمزية، تنتج المعنى وتُعيد تشكيل الوعي، ويمكن أن تكون أداة للثورة أو أداة للهيمنة نظرا لان الأديان جميعها تتناقض مع بعضها وحتى ضمن الدين الواحد لإنها من نتاج العقل البشري اذ من الاجدر ان يكون للبشرية جمعاء دينا واحد محال علية التناقض والتباين عندها نقول انه دين الله الواحد الاحد

هذا المنظور لا يعارض الإيمان، بل يدعو إلى تجاوز القراءة السكونية للدين، وفتح أفق جديد لتأويله في ضوء التغيرات المعرفية والاجتماعية، دون السقوط في الاستسهال الإلحادي أو السرديات العلمانية المتطرفة.

رابعًا: إمكان التلاقي بين الدين والماركسية – نحو أخلاقية نقدية مشتركة

رغم التباين بين المرجعيات، ثمة إمكان للتلاقي بين الدين والماركسية في بعدهما الأخلاقي – التحرري:

  • الدين الحقيقي، كما في جوهره الايماني بان هناك إله واحد خالق الكون ومازال يخلق، يدعو إلى العدالة، والرحمة، ورفض الظلم، ونصرة المظلومين.
  • الماركسية النقدية تسعى إلى إنهاء الاستغلال الطبقي، وتحقيق مجتمع أكثر مساواة وتحررًا.

في هذا السياق، يمكن إقامة حوار إبستمولوجي بين الطرفين، يقوم على أساس نقد مشترك للهيمنة، وتفكيك البنى الظالمة، والدعوة إلى إنسانية تتجاوز الاستلاب، سواء أكان ماديًا أو روحيًا.

الخاتمة

إن معالجة الدين من زاوية إبستمولوجية، لا سيما في إطار الفكر الماركسي، تفتح آفاقًا لفهم أكثر عمقًا للعلاقة بين الفكر والواقع. فالقطيعة المعرفية ليست رفضًا للدين، بل هي تحرير له من سطوة السلطة، واستعادة لدوره كرافعة قيمية وأخلاقية. وفي عالمنا العربي، حيث يتشابك التراث بالدين والسياسة، يصبح من الضروري إعادة قراءة الدين قراءة عقلانية نقدية، تُبقي على جوهره الإنساني، وتُخضع بنياته الخطابية للنقد المعرفي. بهذا المعنى، لا يمكننا أن نحقق نهضة حقيقية دون قطيعة إبستمولوجية مع أشكال الوعي الزائف، سواء جاءت من قراءات جامدة للدين، أو من سرديات حداثية اختزالية، بل من خلال بناء معرفة نقدية حرة، تستلهم من التراث وتتحرر منه في آن.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية