الأم… حيث يبدأ الحب ولا ينتهي

 

الأم… حيث يبدأ الحب ولا ينتهي

بقلم عدنان الطائي

"الأم هي النغمة الأولى في سمفونية الحياة. من نسيها عاش كغصن يابس مقطوع الجذور، ومن وفى لها بقيت روحه خضراء لا يذبلها الزمن."

   في كل قلب بشري، هناك نغمة خفية لا يسمعها إلا من أنصت بصدقٍ إلى داخله… إنها نغمة الأم. ليست الأم مجرد كائن حملنا ورعانا، بل هي الذاكرة الأولى للحب، والمأوى الذي تتشكل فيه إنسانيتنا قبل أن نخطو أول خطوة في العالم.

   حين تبكي الأم، تبكي الإنسانية كلّها. دمعتها ليست دمعة فرد، بل هي صرخة صامتة في وجه هذا العالم الذي كثيرًا ما يُقابل العطاء بالجحود، والحب بالنسيان. ومع ذلك، تظل دموعها أنقى من أن تتحول إلى كراهية، فهي دموع تسقي جذورنا نحن، حتى ونحن بعيدون.

    لقد تعلّمنا أن الفرح قد يخدع، وأن الضحك قد يزيف، لكن دموع الأم لا تكذب أبدًا. هي الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان، لأنها تصدر عن القلب الذي لم يعرف يومًا إلا الصدق. الأم ليست فكرة عابرة، بل هي مدرسة وجودية، تعلمنا أن الإنسان لا يُقاس بما يملك أو بما يحقق من مجدٍ دنيوي، بل بما يحمله في داخله من وفاء وحب. ومن لم يُقدّر أمّه، فلن يعرف يومًا معنى أن يكون إنسانًا كاملًا.

    لكن ما أشد مرارة أن ترى ابنًا يقطع حبله السري الروحي، كما تُقطع شجرة من جذورها، فيتحول إلى غصن يابس لا يورق مهما طال به العمر. هو ذاك الابن الذي نسي مهد أمه، وتناسى دموعها التي سقته، فغاب عنها عشرين عامًا وأكثر، كأنها لم تكن النبع الذي أروى عطشه الأول. إن من ينكر أمه يشبه نغمة خرجت عن اللحن، تفقد انسجامها فلا تعود جزءًا من سمفونية الوجود.. لكن ما أقسى أن نرى ابنًا يشيح بوجهه عن أمٍ انتظرته طيلة تلك السنين، ينسى حليبها الذي سقاه، ودموعها التي غسلت عثراته، ويغلق قلبه أمام حبها. ذلك الابن، مهما بلغ من ثراء أو جاه، سيظل فقيرًا في إنسانيته، لأن من ينكر فضل أمه، إنما ينكر ذاته أولًا، ويمحو جذوره بيديه. لقد صدق الحكماء حين قالوا: العاقّ لأمّه لا يعيش كاملًا، ولو عاش ألف عام

إن غياب الأم لا يُطفئ وجودها، بل يفتح فينا نافذة على الأبدية. من يحب أمه حقًا، يظل يسمع صوتها في صمته، يراها في ملامح أبنائه، ويشعر بيدها تربّت على قلبه كلما ضاقت به الحياة. هي الحاضرة في الغياب، والنور الذي لا يذبل.

أيها الإنسان… إن أردت أن تعرف جوهر نفسك، فانظر إلى أمك: كيف تعبت من أجلك، كيف غفرت لك دون أن تطلب، وكيف انتظرتك حتى آخر لحظة من حياتها. عندها فقط، ستدرك أن الأم ليست مجرد امرأة في حياتك، بل هي معنى الحياة نفسه.

فلنوقظ ضمائرنا إذن… ولنقف أمام أمهاتنا – أحياءً كنّ أم راحلات – بكل خشوع، ولنجعل من ذكراهن صلاةً أبدية تحفظ إنسانيتنا من الضياع. لأن الأم ليست فقط من أنجبتنا، بل هي من أبقت جذوة الحب مشتعلة في هذا العالم المتلاطم بالأمواج.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية