بين الإبداع والخطيئة: هل تُغفر الجريمة بالشعر؟

 

 بين الإبداع والخطيئة: هل تُغفر الجريمة بالشعر؟

بقلم عدنان الطائي

المقدمة:

شعراء كثيرون أُحبُّ شعرهم وادباء وعلماء وسياسيون نجلهم مع أن موقفهم لا يستحق الاحترام حين يُغلون في العمالة والرذيلة.. كيف أكون متوازنا في الراي بين مهاجمة سلوكهم مشروط عدم الطعن بمنجزهم الإبداعي؟ كالشاعر الفرنسي بودلير اتُّهم بالدعارة والخلاعة، لكنه واحد من مؤسسي الحداثة الشعرية. او كسلفادور دالي كان قريبًا من الفاشية، وإزرا باوند داعمًا لموسوليني، ومع ذلك يُدرّسون في أرقى الجامعات.

    حقا انه سؤال عميق وجريء، ويتطرق إلى واحد من أعقد إشكاليات النقد الثقافي والفلسفة الأخلاقية: هل يمكن فصل الإبداع عن سلوك صاحبه؟ وهل الإبداع يغفر الانحطاط الأخلاقي؟ دعونا نقسم الأمر عقلًا وضميرًا:

 أولًا: التقييم الفني

   الإبداع الأدبي أو الفني يُقيَّم بصفته نصًّا أو عملاً مستقلاً عن سلوك صاحبه. فالقصيدة الجيدة تبقى جيدة، ولو كتبها شخص لا نحترمه، تمامًا كما أن المعادلة الرياضية لا تُخطئ لأنها من تأليف عالم كان فاسدًا أو مجرمًا. لذلك الفن الخالص يقاس بجودته لا بصاحبه. وهذه قاعدة معرفية، لا عاطفية.

 ثانيًا: التقييم الأخلاقي

    لكن هذا لا يعني أن المجتمع أو النقاد أو أنت كفرد تُلزم نفسك بإعفاء المبدع من أخلاقه. بل لك أن تقول: "نعم، ما كتبه عظيم، لكن سلوكه مُشين، وأنا أرفض تمجيده كقدوة أو إنسان." هنا تفصل بين الإعجاب بالنص وبين القبول بالشخص. بل يجوز ان تقول: "إعجابي بنصه لا يعني غفراني لانحرافه، بل يجعلني أشعر بالألم أن هذا الجمال خرج من إنسان بهذا الانحدار."

 ثالثًا: هل يمكن أن يُرفض المنجز بسبب السلوك؟

نعم، في بعض الحالات القصوى:

  • إذا كان نتاجه يسوّق للفساد أو العمالة أو الانحراف، فهنا النص نفسه يصبح شريكًا في الجريمة، ويحق نقده كأداة تحريض أو تضليل.
  • أما إذا كان النص نزيهًا وجميلاً، لكنه صادر عن إنسان واطٍ، فالنص يبقى، والعار يبقى لصاحبه.

 خلاصة القول: ان المنجز لا يُلغى بسلوك صاحبه، لكنه لا يُطهّره أيضًا ولك الحق أن تحترم النص وتلعن الكاتب. ولا يُطلب منا أن نُكرّم القبيح لأنه كتب جميلاً. هذا التوازن هو قمة الإنصاف: أن نقول لمن انحرف: لن ننسى خطيئتك، لكننا لن نكذب على الجمال الذي كتبته. فنحن لا نغفر، ولا نكذب، بل نُبصر. حينها يُحرج الجمال صاحبه ، وبنفس الوقت     ليس من السهل على الناقد، أو القارئ المنصف، أن يُوازن بين بهاء النص وقبح السلوك، بين صوت القصيدة النقي وممارسة السياسة، وهمس الخيانة في الظلال. فنحن نحب الجمال… ولكن لا نقدّس صاحبه، ونحتفي بالكلمات… ولكن لا نغفر ما لا يُغتفر إن خرج من فم قبيح. هل يُعقل أن نمدح نصًا كتبته يد عميل؟ وهل نعلّق قصيدة على الجدران وقد سقط شاعرها أخلاقيًا؟ إنها المعضلة التي تواجه كلّ من يفصل بين العقل والقلب، بين الإنصاف والنفور، بين من يرى الفنّ كيانًا مستقلًا، ومن يراه مرآة لصاحبه، لا ينفصل عنه. نحن هنا لا نلغي النص لأنه من إنتاج ساقط، ولا نُطهّر الساقط لأنه كتب نصًا باهرًا.  بل نقولها بوضوح: الجمال لا يُعفي من المحاسبة، والمحاسبة لا تشطب الجمال.

الخاتمة:

ما أعقد الإنسان حين يجمع بين القمة والحضيض… يكتب ما يُبكينا، ثم يرتكب ما يُخزينا. وقد نقف طويلاً أمام هذا التناقض المؤلم: هل يُعفيه شعره من سلوكه؟ هل يحق للقصيدة أن تُبيّض وجه شاعرٍ غارقٍ في الخيانة أو الرذيلة؟ المنطق النزيه يقول: لا. فليس من الإنصاف أن نخلط بين النور والظلام، لا لأننا لا نحب الجمال، بل لأننا لا نبيع ضمائرنا بثمن الكلمات. فقد يكتب المبدع ما يُدهشنا، لكننا لا نُعفى من سؤاله: "من أنت خلف النص؟ من أنت حين تطفئ المصابيح؟" إننا لا نحاكم النص الجميل، بل نحاكم صاحبه حين يطلب التقديس، وهو قد خان القيم، أو باع الوطن، أو تاجر بالجسد. لا الجمال يشفع للخيانة، ولا القصيدة تبرر القبح الأخلاقي. ومع ذلك نحن لا نرتكب الظلم المضاد، ولا نُزوّر الذائقة. نُبقي على القصيدة إن كانت تستحق، ونخلع عن كاتبها تاج القدوة، إن كان لا يستحق. فالمجد للإبداع، والعار للمبدع إن خان. هذا هو العدل… لا يُقدّس فيه أحد، ولا يُشطب فيه الجمال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية