بين خطأ الإنسان وعفو الإله: قراءة في جدلية الخير والشر

 

 بين خطأ الإنسان وعفو الإله: قراءة في جدلية الخير والشر
بقلم: عدنان الطائي

"أن تخطئ فعلٌ بشري، وأن تعفو فعلٌ إلهي."

هذه المقولة، والتي تنسب أحيانًا إلى ألكسندر بوب أو تُستشهد بها في أعمال مثل رواية "العهود" لمارغريت آتوود، تقوم على ثنائية المقارنة بين ضعف الإنسان وقدرة الإله، وتمنح فعل العفو صفة سُموٍّ تفوق الطاقة البشرية المعتادة.. مقولة تلامس شغاف القلب لأول وهلة، تحرّض فينا الحنين إلى الكمال، وتمنح للغفران طابعًا سماويًا لا يُطال. لكنها ـ رغم جمالها اللفظي ـ لا تخلو من مثالية مفرطة، تُجرد الإنسان من قدرته على العفو، وتضعه دائمًا في خانة الخطيئة، وكأنما رُسم له أن يذنب فقط، دون أن يغفر أو يُسامح.

تحليلها فلسفيًا وواقعيًا:

1.  هل هي مثالية مفرطة؟

 نعم، من زاوية الواقعية النفسية والسلوكية، فالمقولة ترفع العفو إلى مستوى من التعالي قد لا يكون متاحًا للجميع، رغم أنه مطلوب أخلاقيًا ودينيًا. فالإنسان ليس مجرد كائن خاطئ يحتاج عفواً، بل هو كائن يُخطئ ويُعاقب ويغفر أيضًا حسب الموقف، والظروف، وطبيعة الموقف الأخلاقي أو العاطفي.

2.  الإنسان جبل على الازدواجية:

صحيح تمامًا ان الإنسان يولد بخليط من الخير والشر، الرحمة والقسوة، العدل والانتقام. حتى في النصوص المقدسة، يُشار إلى هذا التكوين المزدوج: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا." (الشمس: 7–8) أي أن الإنسان مؤهَّل لكل من الفجور والتقوى، لا أحد مطلق في الخير أو الشر. 

3.  القول الإلهي: "وما ربك بظلامٍ للعبيد":

هذا تعبير عن العدالة المطلقة، التي تنفي عن الله الظلم، وتُؤكد أن محاسبة البشر قائمة على علم وعدل، وليست على مزاج أو مطلق رحمة. بالتالي فحتى العفو الإلهي ليس مجانياً دائماً، بل مشروط بالتوبة والنية الصادقة، وهذا يُقرّب الإله من المنطق والميزان، لا من التسامح المفتوح فقط.

الخلاصة:

مقولة آتوود (أو غيرها ممن صاغوها) تُلهم السمو الأخلاقي، لكنها لا تمثل الحقيقة الكاملة عن النفس البشرية. الإنسان ليس فقط من يُخطئ، بل هو أيضاً من يتألم، ويغفر، وينتقم، ويصفح حسب التجربة.  وبالتالي، فإن العفو ليس فعلاً إلهياً فقط، بل هو خيار إنساني راقٍ قد يُمارسه من يملك القوة والرحمة والوعي.

بالمجمل كون الحقيقة أكثر تعقيدًا من هذا التقسيم الحاد. فالإنسان، في جوهره، كائن متنازع بين قوتين: النور والظلمة، الغفران والانتقام، العدالة والرحمة.. فهو ليس ملاكًا، وليس شيطانًا، بل كائن يُولد وفي أعماقه بذور الخير والشر معًا. ومن هنا، فإن العفو ليس امتيازًا إلهيًا خالصًا، بل هو أيضًا قرارٌ إنسانيٌّ شجاع، ينبع من عمق التجربة، ومن تجاوز الألم، ومن حكمة الشعور بالقوة لا بالضعف. لقد ألهم الله النفس البشرية فجورها وتقواها، ولم يجعلها محكومةً باتجاهٍ واحد. وهذا الاعتراف الإلهي بازدواجية النفس البشرية، هو أصدق شهادة على الحرية الأخلاقية التي مُنحت للإنسان. نحن نخطئ نعم، لكننا أيضاً نستطيع أن نعفو، وأن نرتقي، وأن نكون أكثر إنسانية من أعدائنا. ثم إن الله ذاته، رغم صفاته العليا، لا يعفو دون حساب، بل يقول: "وما ربك بظلام للعبيد". وهذا إقرار بعدالة توازن بين الرحمة والمساءلة، فلا رحمة مطلقة، ولا عقاب أعمى. فلماذا نُقصي الإنسان عن فعل العفو؟ أليس الأب يغفر؟ والأم؟ والحبيب؟ والصديق؟ كم من دمعة أسقطها غافرٌ عفي عمّن جرحه؟ كم من قلبٍ رقّ رغم ما عاناه؟ أليست هذه جميعها مظاهر من الإلهي الذي يسكن في أعماق الإنسان؟

في الختام

 قد تكون مقولة آتوود دعوة للسمو، لكنها لا تُنصف الإنسان إن جردته من قدرة العفو. فالإنسان، وإن أخطأ، يملك القدرة على أن يغفر، وأن يسمو، وأن يمارس فعلاً إلهياً حين ينتصر على ألمه لا حين يُهمل حقه.  العفو إذًا... ليس فعلًا إلهيًا فحسب، بل خيار من يملك القوة الأخلاقية والسمو الإنساني.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية