قصة قصيرة مرافئ العجين الضائعة.. أنا الذي لم أكن

 

قصة قصيرة

مرافئ العجين الضائعة.. أنا الذي لم أكن

في صمت الليل، حين تستسلم المدينة لإغفاءتها الرمادية، وتتكئ النجوم على خاصرة السماء كأسرارٍ متلألئة، وقفتُ أمام المرآة. لم أرَ وجهي. بل رأيت قناعًا من ملامح متعبة، كأن الزمن خربش عليه بأسنانه. نظرت في عينيّ، فرأيتهما تنظران إليّ دون أن تعرفاني. كنت غريبًا عنّي. سألتُني: "من هذا الطيف الذي يسكنني؟ وماذا يريد؟" لكن البحر الذي غُرِسَ في داخلي لم يُجب، بل ازداد اتساعًا، وأغرقني في دوّامةٍ من صمتٍ كثيفٍ لا صوت له. فجأة، همست الفكرة في أذني كما لو كانت طقسًا سريًا: "أعجن نفسك!" لا أدري من قالها، ربما المرآة، ربما طيفٌ قديم كنتُه يومًا، وربما ذلك الجزء المدفون في داخلي الذي رفض أن يموت.

"أعجن نفسي؟!"

ترددت الكلمة كتعويذة. كخبازٍ يوقظ العجين في ظلمة الفجر، يتأمله وهو يختمر، يخلط فيه ملح الذكريات، وسكر الندم، ودقيق الأمل، ويتركه على مائدة الوقت ليرتفع أو يسقط.

لكن أيّ خميرة أحتاج؟ أأيّ ماضٍ أعجن؟

 وهل العجن يعني الهدم؟ أم هو إعادة تشييدٍ لنفسٍ تهالكت من التكرار؟ هل أملك أن أغيّر مسار النهر، وأنا مجرد قطرة تحاول أن تفهم إلى أين تسير؟ تذكّرت هيراقليطس، ذلك الحالم بالماء والزمن: "لا يمكنك أن تغتسل في نفس النهر مرتين."كأنّه كان يهمس لي: "يا أنت، النهر ليس النهر، وأنت لست أنت." فما الحياة إذن؟ عجينة من ماءٍ وزمن، تتبدّل كل لحظة، وتختمر كلما حاولنا الإمساك بها. أدركت حينها أن العجن ليس فعلًا جسديًا، بل ولادة جديدة. ليس الهروب من الذات، بل الرجوع إليها بحروف جديدة. أن أُعيد ترتيب الوجع، أعيد تذوق الفرح، أعيد اختراع أعضائي الداخلية، لا بالسكين، بل بالمعنى. ولم أكن وحدي، بل كنت محاطًا بالأرواح التي عبرتني ذات يوم: أصدقاء كنا نتقاسم معهم الصمت، عائلة تسندني دون أن تقول، قلوب انكسرت بقربي فتعلمت منها شكل الضوء حين يتسرّب من الشقوق. فعدت إلى المرآة. نظرت إليها لا لأرى، بل لأُرى. هذه المرة، لمع في عينيّ شيء لا أعرفه، لكنه يشبه الفجر حين يتسلل خجولًا.

سأعجنني.
سأضيف قليلاً من الجنون، قليلاً من الطفولة، قليلاً من النسيان، وكثيرًا من الحنين. وسأنتظرني، كما ينتظر الخبّاز رغيفه الأول، لا ليأكله، بل ليتأكد أنه ما زال قادرًا على الخلق.

عدنان الطائي

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية