"حين تمشي الحياة إلى الوراء" تأمل فلسفي في حلم الإنسان المعكوس
"حين تمشي الحياة إلى الوراء"
تأمل فلسفي في حلم الإنسان المعكوس
بقلم عدنان الطائي
على هامش راي الكاتب الكوميدي الأمريكي جورج كارلين الذي يعكس رؤية عكسية للوجود الإنساني، وهي تفتح الباب أمام عدة قراءات فلسفية منها ما أُبين ادناه:
بعد ان نعتبر الزمن خطٌّا اصطناعيا وليس جوهريًا.. اذ يفترض أن الحياة يمكن أن تسير "عكسيًا"، وكأن الزمن ليس مسارًا حتميًا، بل اتفاقٌ بشريّ، مما يستدعي التأمل في سؤال: هل الزمن جوهري في ذاته، أم هو مجرد وسيلة لفهم التحول؟ ونعترف ان في الحياة العادية، الإنسان يبدأ ضعيفًا، يقوى، ثم يضعف ويموت. أما في هذه الرؤية العكسية، يبدأ بالموت (كنهاية للتعب) ثم يتحرر تدريجيًا نحو الخفة، اللعب، واللا مسؤولية. وكأننا نقول: لماذا لا تكون الحياة رحلة تحرر بدلاً من رحلة انحدار؟ ما الذي يجعلنا نربط "النضج" بالحكمة؟ أليس الطفل أكثر حكمة من حيث صدقه وعفويته؟ هل يمكن للحياة أن تكون مجرد لحظة بين نشوتين؟ نشوة الولادة ونشوة اللذة كأننا في صورة دائرية، وكأن الحياة هي دورة مغلقة تبدأ وتنتهي بلذة.. هذا النص يحتج على قسوة الزمن وتراجيديا الموت، عبر صياغة حياة "مثالية" عكسية، تدعو إلى قلب القيم السائدة عن النمو، الشيخوخة، والمتعة. وكأنه يقول: "دعونا نتخيل حياةً لا يعاقبنا فيها الزمن، بل يعتقنا منه".
في زاوية حالمة من الوجود، تخطر فكرة مجنونة في بال العقل المتعب: لماذا لا نعيش الحياة بالعكس؟ أن نبدأ ميتين، وقد انتهى كل شيء، ثم نصحو رويدًا من ثقل العدم، متخففين من عبء النهاية، متجهين نحو البدايات. نتخيل صحوة داخل دار للمسنين، لا لنعاني، بل لنُشفى. يوماً بعد يوم نسترد عافيتنا، نُطرد لأننا أكثر من اللازم على قيد الحياة. نغادر حاملين معاشًا لا يخص شيخوختنا، بل يشجعنا على العمل. في أول يوم عمل، لا نتعلم، بل نُكافأ: ساعة ذهبية، وتصفيق، وكأننا أنجزنا مهمتنا منذ البداية! نعمل، ولكننا لا نهرم، بل نصغر. نتراجع من الأربعين إلى العشرين، ومن النضج إلى الشباب، ومن الشباب إلى المراهقة، حيث تبدأ الطيشة لا نهايتها. وحين نبلغ الحماسة الكاملة للحياة، نترك كل شيء، نحتفل ونشرب ونضحك، دون حساب لزمن يتقدم، فهو يتأخر بفرح. نرجع إلى المدرسة لا لنتجه نحو المستقبل، بل لنستعيد البراءة. نترك الثانوية إلى الابتدائية، ومن الابتدائية إلى اللعب الخالص، حيث لا قوانين سوى قوانين الخيال. نتحول إلى أطفال لا يدركون شيئًا من ألم العالم، ثم إلى رُضع لا يعون أصلًا أن هناك عالمًا يُؤلم. وأخيرًا، نعود إلى رحم الأم، إلى ذلك المنتجع المائي المعزول، الدافئ، الهادئ، حيث لا لغة، ولا أسماء، ولا جروح. كل يوم نُصبح أصغر، حتى نختفي في النشوة الأولى — نشوة الولادة التي لا نعيشها عادة، بل تُعاش بنا.
فلسفة هذا الحلم العكسي: ما الذي يدفعنا لتخيل حياة عكسية؟ ربما لأننا في أعماقنا نرفض أن يكون الزمن حاكمًا مطلقًا علينا. نتمرد عليه، نحاول أن نقلب سلطته، أن نضحك في وجهه ونقول: "نحن لم نُخلق لنفنى، بل لنتحرر." في هذا الحلم، الموت ليس نهاية، بل بداية خلاص. العمل لا يسرق عمرنا، بل يعيد لنا شبابنا. الطفولة ليست مرحلة جهل، بل ذروة الحكمة. والولادة ليست انطلاقًا نحو المعاناة، بل نهاية النعيم. كأن هذا التصور العكسي، برمزيته، يُجرد الحياة من عبثيتها، ويمنحها معنى جديدًا: أن تكون الحياة رحلة عودة، لا انحدار — تحرر من الثقل، لا تراكم له.
في الختام: هذا الحلم ليس دعوة للهرب من الواقع، بل مرآة نقدية ساخرة لما نمر به. هو صوت الفطرة الذي يسأل ببراءة طفل: "لماذا يجب أن تكون الحياة بهذا الشكل؟" إنها ليست فلسفة زائفة، بل صرخة شاعرية في وجه الزمن، تقول له: "لسنا مُلكَك... ولو لمرة، دعنا نبدأ من النهاية."
تعليقات
إرسال تعليق