من أفشى سرّ تشي جيفارا؟ حين تواطأت الجغرافيا والتاريخ على حلمٍ ثوري
من أفشى سرّ تشي
جيفارا؟ حين تواطأت الجغرافيا والتاريخ على حلمٍ ثوري
بقلم: عدنان الطائي
في جبال بوليفيا
القاسية، حيث الطبيعة قاسية كقلوب الجنرالات، انتهت حياة الثائر الأممي إرنستو
"تشي" جيفارا، ذات صباح غائم من تشرين الأول/أكتوبر 1967، لكن سؤاله لم
يمت:
"من خانه؟ ومن أمر بإعدامه؟" بعد أكثر من نصف قرن، لا تزال الأسئلة تحوم فوق
جثته المسجاة بالرصاص، وتضج بها كتب التاريخ، في صمتٍ يشبه طلقاتٍ خرساء لم تصب
إلا قلب الحقيقة.
الدخول إلى المتاهة:
بوليفيا، 1966
دخل تشي بوليفيا
متنكّرًا بجواز سفر مزور يحمل اسم "أدولفو مينا غونزاليس"، حالمًا بثورة
جديدة في قلب أميركا اللاتينية، تقود شعوب القارة إلى التحرر من الهيمنة والإقطاع
والاستعمار الجديد. لكن البلاد كانت صامتة، والناس متوجسين، والخونة أقرب من الرفاق.
ما لم يعلمه جيفارا أن
بوليفيا لم تكن كوبا، ولا شعبها كان مستعدًا للالتحاق بقطار الثورة. في الجبال
والغابات، لم يكن العدو فقط الجيش، بل الغربة، والعزلة، ووشاية من كان بالأمس
"الرفيق". خيانة... لكنها مركبة لم يسقط جيفارا ضحية خيانة
فرد، بل خيانة ظروف. الروايات تعددت، لكن الثابت أن رجلين لعبا دورًا
مركزيًا في كشف موقعه:
- سيرو بوستو، فنان أرجنتيني كان ضمن
المجموعة الثورية، ألقت السلطات القبض عليه واستخلصت منه معلومات ورسومات
كشفت هوية جيفارا وعدد رجاله.
- ريجيس دوبريه، الفيلسوف الفرنسي اليساري،
اعتُقل كذلك، واتُّهم بإعطاء تفاصيل دقيقة عن خط سير المجموعة. أنكر لاحقًا
مشاركته في أي وشاية، لكن الشك بقي معلقًا كخيطٍ على رقبة التاريخ.
لا وثائق تؤكد خيانة
متعمدة، لكن الحقيقة المؤلمة أن المقاومة كانت منهكة، والقلوب المثقلة باليأس قد
تتكلم تحت الرعب. الـ CIA تُطوق الحلم
منذ اللحظة الأولى لوصول تشي إلى بوليفيا، كانت الولايات المتحدة على علم
بالتحرك. المخابرات الأميركية (CIA) جنّدت قادة الجيش
البوليفي، وأشرفت على تدريبهم ومتابعتهم لحظة بلحظة. كان فيليكس
رودريغيز، الضابط الكوبي الأصل، أبرز عناصر الـ CIA في الميدان، ويُقال إنه
كان حاضراً أثناء استجواب جيفارا، والتقط له آخر الصور قبل الإعدام.ولم تكن بوليفيا وحدها
في الساحة. خلف الستار، كان العالم يقايض المبادئ بالمصالح:
- الاتحاد السوفييتي، وقد بدأ يجنح نحو
الواقعية السياسية، لم يبدِ حماسًا لمغامرة جيفارا، خاصة بعد أزمة الصواريخ.
- كوبا، بقيادة كاسترو، رغم حبه لجيفارا،
اختارت الصمت حين بدأت الخسارة تلوح، مكتفية بإرسال البرقيات والبلاغات.
الطلقة الأخيرة:
إعدام... لا قتال
في صباح 9 أكتوبر 1967، داخل مدرسة طينية في
قرية "لا هيغيرا"، قررت القيادة البوليفية إعدامه، ليس بقرار قضائي، بل
بإيعاز سياسي. أُطلق عليه النار بأوامر مباشرة من وزير الدفاع،
وبموافقة ضمنية من وكالة الاستخبارات الأميركية. المنفذ كان
الجندي ماريو تيران، الذي تردد أولًا، ثم أطلق عدة رصاصات في الأرجل والصدر. قبل موته، نظر تشي إليه وقال:
"أطلق، أيها الجبان. أنت فقط تقتل رجلاً."
هكذا مات الجسد، وبقيت الفكرة.
من خانه؟
سؤال معقّد كحياة تشي نفسها.
قد تكون الخيانة في الرفيق، أو في القيادة البعيدة، أو في الشعب الذي لم
يؤمن برسالته، أو في دهاليز السياسة التي فضّلت مصالحها على الحلم. لكن الأخطر من الخيانة، كان التآمر الدولي:
- أميركا أرادت وأشرفت على التصفية.
- بوليفيا نفّذت.
- كوبا صمتت.
- السوفييت تجاهلوا.
وما بين هؤلاء، تلاشى
حلم رجل، أراد أن يزرع الثورة في صخر، فسُقي دمه بدلاً من الماء.
ختامًا: لم يُقتل جيفارا كقائد عسكري، بل كرمز. لم يُغتال فكره، بل جُرّدت
ثورته من الحاضنة. سقط في متاهة جغرافيا خانته، وسياسة أحبطته،
وعالم لا يغفر للأحلام الكبيرة. لكن يبقى
السؤال المُلّح، لكل جيل جديد: هل نحن من
خذل جيفارا، أم أن الحلم كان أكبر من أن تحتمله الأرض؟
تعليقات
إرسال تعليق