من البعث إلى العمامة: تبديل القميص لا النهج

 

من البعث إلى العمامة: تبديل القميص لا النهج

بقلم عدنان الطائي

 من خلال مسيرتي السياسية التي عاصرت فيها مختلف التحولات التي مر بها العراق، أجد أن ما شهدناه منذ عام 1958 وحتى اليوم ليس إلا تكرارًا للوجوه نفسها بأقنعة مختلفة. فالصراع السياسي لم يكن يومًا بين مشاريع بناء وطن، بل بين قوى تتصارع على السلطة والنفوذ، تُغيّر خطابها وتحتفظ بأدواتها القمعية. في بدايات الجمهورية، انحصر الصراع بين قوى اليسار العراقي، ممثلة بالحزب الشيوعي والماركسيين، وبين القوى القومية والبعثية. وقد بلغ هذا الصراع ذروته في شكل تصفية جسدية، واعتقالات، وخطف، وتشويه إعلامي، مارسه البعثيون ضد اليساريين، متهمينهم بالخيانة والعمالة. ومع صعود الإسلام السياسي إلى الساحة، خصوصًا مع مطلع الثمانينيات، تحوّل الصراع إلى مواجهة جديدة بين حزب البعث والإسلاميين، الذين تعرّضوا بدورهم للقمع والملاحقة. لكن المفارقة الكبرى جاءت بعد عام 2003. إذ سقط نظام البعث، واعتقد البعض أن مرحلة جديدة ستبدأ بقيادة تيارات رفعت شعارات "العدالة" و"الحرية" و"المظلومية". إلا أن الإسلام السياسي، بشقيه الشيعي والسني، لم يأتِ بمشروعٍ للدولة، بل جاء بمنهجية تسلطية جديدة مستنسخة من البعث نفسه. بل إن الأدهى أن الصراع بعد 2003 لم يكن مع البعث، بل مع التيار المدني والعلماني، الذي يُفترض أنه شريك في بناء وطن ديمقراطي تعددي. غير أن الإسلاميين استخدموا نفس أدوات البعث في مواجهة خصومهم:

  • التسقيط الأخلاقي،
  • الشتائم والسباب،
  • نشر الصور والفيديوهات المبتذلة،
  • استعمال أجهزة الدولة الأمنية والقضائية في الإقصاء،
  • السيطرة على المال العام ومفاصل الدولة من خلال "الدولة العميقة".

   لقد عايشت هذه المرحلة، ووجدتُ أن الكثير من عناصر الإسلام السياسي الشيعي هم في الأصل بعثيون سابقون. هؤلاء لم يجدوا في الفضاء المدني أو اليساري مكانًا يُحتَضن فيه سلوكهم القمعي، فانتقلوا ببساطة إلى الفضاء الديني، ورفعوا شعارات "المذهب" بدل "الأمة"، لكن نهجهم القمعي وذهنيتهم السلطوية بقيت كما هي.

أما التيارات اليسارية والمدنية، وعلى الرغم من ضعف تأثيرها الجماهيري أحيانًا، فإنها لم تمارس خطاب الكراهية أو السباب أو المحتوى الهابط، بل ظلت تتمسك بالخطاب العقلاني والنقدي. وهذا يجعل من الصعب على اليساري أو المدني أن يتحول إلى نقيضه، خلافًا للبعثي الذي يتحول بسهولة إلى داعية ديني أو قائد ميليشيا، ما دام ذلك يضمن له السلطة والهيمنة.

ختامًا:

إن السلطة في العراق منذ 1958 وحتى اليوم لم تغادر بيت الطاعة السلطوي، حتى لو غيّرت زيّها من زيّ قومي إلى زيّ ديني. العبرة ليست في الشعار، بل في النهج والممارسة. وإن استمرار استخدام أدوات التسقيط والقمع هو الدليل الأقوى على أن من يحكم اليوم ليسوا أصحاب مشروع حضاري، بل حفّاري قبور للمدنية. وإني على يقين بأن الشعوب، ولو طال صبرها، لا تنسى، ولا تصالح من استخفّ بعقلها وكرامتها.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع