الرواية: بين كذبة الخيال وحقيقة الإنسان قراءة إنسانية في مقولة ماريو فارغاس يوسا


 

 الرواية: بين كذبة الخيال وحقيقة الإنسان

قراءة إنسانية في مقولة ماريو فارغاس يوسا

بقلم عدنان الطائي

"ليست الرواية في نهاية المطاف سوى كذبة أو خدعة بمعنى ما. إنها لا تنقل الواقع بحذافيره، بل تخلق، بوساطة اللغة، واقعاً آخر مكافئاً، أو موازياً؛ له استقلاليته وخصائصه الفريدة."
ماريو فارغاس يوسا

هذه المقولة التي أطلقها الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا تفتح أمامنا بابًا واسعًا لتأمل طبيعة الرواية وحدود تأثيرها على الوعي الإنساني. هل الرواية خدعة؟ وهل الكذب الفني ضرورة جمالية أم مراوغة فكرية؟ وما حدود الأثر الذي يتركه هذا الواقع البديل الذي تصنعه الرواية في قلوبنا وأفكارنا؟

الرواية ككذبة كبرى... في سبيل الحقيقة

في ظاهرها، تبدو الرواية خيالاً متقنًا، مجرد قصة مختلقة من بنات عقل الكاتب، لكن في جوهرها، هي محاولة لقول ما لا يُقال، لتشريح الواقع بأدوات غير مباشرة. إن ما يُخفيه الكاتب خلف اللغة والخيال هو جوهر الحقيقة الإنسانية: الألم، الحب، الخيانة، الخوف، الحنين، التمرّد، والوحدة.. لكن يوسّا لا يحتقر الواقع، بل يعتقد أن الفن أرقى حين يُعيد إنتاج الواقع، لا حين يستنسخه. الرواية هنا تصبح مرآة معوجة لكنها تُظهر زوايا خفية، لا تراها المرايا المستقيمة. مما تسبب الرواية تأثيرا إيجابيا كدواء خفي في أفضل حالاتها، الرواية دواءٌ للروح، ومتنفسٌ للمكبوت. هي ملاذ الحائر، ورفيقة المهمّش، واعتراف صامت يربت على كتف القارئ قائلاً: "لست وحدك في هذا الوجع."

   لقد منحت الروايات عبر العصور صوتًا لمن لا صوت لهم، وصاغت مصائر منسية، وكشفت مظالم اجتماعية، وأعادت الاعتبار للقيم الإنسانية خارج أطر السلطة والدين والمال،

بل يمكن القول إن الرواية الجيدة تعلمنا كيف نفهم الآخر، كيف نُصغي للصمت، وكيف نرى العالم بعيون غيرنا.

   وفي التأثير السلبي للرواية تتحول الرواية إلى واقع بديل مزيّف، تحتوي أيضًا على شيء من الخداع حين يُفرط الإنسان في التماهي مع عوالمها، قد تتحول إلى مهرب خطير من الواقع. قد ينخدع القارئ، فيظن أن العالم يشبه الرواية التي قرأها، فيُصاب بخيبة حين يصطدم بقسوة الواقع. الرواية قد تُجمّل القبح أو تُعطي الشرّ أجنحة رومانسية، وقد تُلبس العبث ثوبًا من المعنى المزيّف. وهنا يكمن خطرها: أن يتحول الخيال من وسيلة لفهم العالم إلى وسيلة للهروب منه. وهنا تكمن مسؤوليتها ما بين اللذة والوعي.

  لذلك نجد يوسا لا يبرّر "الكذبة" إلا بشرط أن تخدم الوعي الجمالي والإنساني. الرواية الجيدة ليست أفيونًا، بل مرايا متعددة، تُربكنا أولاً، ثم تُصالحنا مع أعماقنا. هي لعبة ماهرة، نعم، لكنها لا تُمارس للترف، بل للحاجة: حاجتنا لأن نقول ما لا يُقال، ولأن نحيا حيوات لم تُتح لنا أن نحياها.

 ختامًا:

     الرواية ليست وهماً، بل فن الحقيقة المقنّعة. إنها الكذبة الوحيدة التي نرضى بها لأنها تجعلنا أكثر صدقًا مع أنفسنا. فإن كتبت أو قرأت، فلتكن الرواية جسرًا نحو وعيٍ أرحب، لا مجرد وسادة للنسيان.

#مكتبة_تكوين #أدب #فكر #ماريو_فاغاس_يوسا #الرواية_والحقيقة #الخيال_الإنساني #نقد_أدبي

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع