التشيؤ بين المطرقة والمجهر: من لوكاش إلى هابرماس

 

التشيؤ بين المطرقة والمجهر: من لوكاش إلى هابرماس

بقلم عدنان الطائي

 أجل، ما أشار اليه صديقي الأستاذ Azad Mustafa على الفيسبوك حين قراء مقالتي المنشورة على صفحتي بعنوان (حين يتحوّل الإنسان إلى شيء: قراءة في التشيؤ والنظام الاقتصادي الهجين) كانت غاية في الدقة، حيث اشار إلى يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني المعاصر في سياق نقد التشيؤ مهمة جدًا، بل اعتبرتها في محلها تمامًا. والان أقدم هذه المقالة تحت عنوان (التشيؤ بين المطرقة والمجهر: من لوكاش إلى هابرماس)

  في سجلات الفلسفة الاجتماعية الحديثة، يبرز مفهوم "التشيؤ" كمفتاح لفهم أزمة الإنسان في عصر الحداثة، وقد قدّمه لأول مرة الفيلسوف المجري جورج لوكاش سنة 1923 في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي". ثم جاء الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بعد عقود، ليعيد تفكيك الظاهرة ضمن منظور أشمل وأكثر تركيبًا، لا يقتصر على الاقتصاد وحده، بل يمتد إلى اللغة والإعلام والسياسة والحياة اليومية.

أولاً: لوكاش – التشيؤ بوصفه تغريبًا طبقيًا

يرى لوكاش أن الرأسمالية لا تُنتج فقط سلعا، بل تُنتج بشراً مشيّئين. العامل، المستهلك، الموظف، وحتى الثقافة نفسها، تتحول إلى "أشياء" قابلة للتبادل والتقييم وفق معيار السوق كما وصفتها في مقالتي أعلاه ملخصه:

  • الإنسان يُختزل إلى أداة.
  • العلاقات بين البشر تُستبدل بعلاقات بين أشياء.
  • الوعي يُشوه، ويُسلب من الإنسان إدراكه العميق لذاته وللعالم.

النتيجة: بالنتيجة المجتمع يتغرب فيه الذات، ويتحوّل فيه الإنسان إلى "شيء من أشياء السوق"، محكوم بحتمية اقتصادية.

ثانياً: هابرماس – التشيؤ كتشيّء للغة والعقل

أما يورغن هابرماس، فينطلق من سؤال أعمق: ماذا لو لم يكن التشيؤ فقط في الاقتصاد، بل تسلل إلى اللغة نفسها؟ هنا يميز هابرماس في مشروعه حول (نظرية الفعل التواصلي) بين نوعين من العقل:

  • العقل الأداتي: يُستخدم لتحقيق أهداف مادية، كما في السوق أو الإدارة.
  • العقل التواصلي: يُستخدم للتفاهم، وبناء إجماع اجتماعي حر.

 لذلك يرى هابرماس أن الحداثة الغربية اختزلت العقل إلى أداة، مما أدى إلى تشيؤ جديد، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في التواصل الإنساني نفسه.

ثالثاً: نقاط الالتقاء والاختلاف

النقطة

جورج لوكاش

يورغن هابرماس

جوهر التشيؤ

ناتج عن علاقات الإنتاج الرأسمالية

ناتج عن استعمار "العالم المعيش" بالعقل الأداتي

الحل المقترح

وعي طبقي وثوري

إعادة بناء الفعل التواصلي الحر

أدوات النقد

الفلسفة الماركسية

الفلسفة النقدية – مدرسة فرانكفورت

الرؤية للإنسان

كائن مغترب في السوق

كائن محاور في فضاء عام عقلاني

 رابعاً: أيهما أقرب إلى واقعنا اليوم؟

  • في عالم اليوم، حيث الذكاء الاصطناعي، وسائل التواصل، الإعلام الموجَّه، والاقتصاد الرقمي، ربما يكون هابرماس أقرب لقراءة الواقع.
  • أما لوكاش، فرؤيته لا تزال حيوية لفهم التشيؤ في العمل والسلعة والطبقية الجديدة، خاصة في ظل النيوليبرالية.

باختصار تكون المقارنة بي الاثنين ببساطة:

  • لوكاش كشف التشيؤ في المصنع والسوق.
  • هابرماس كشف التشيؤ في الإعلام، الدولة، وحتى في اللغة اليومية.

 خاتمة: من الوعي إلى التواصل

إذا كان لوكاش قد دق ناقوس الخطر في وجه التشيؤ الاقتصادي، فإن هابرماس وسّع الدائرة، وبيّن أن الخطر الأكبر هو تشيؤ العقل ذاته، حين يتحول الحوار إلى تقنية، والإنسان إلى مستهلك صامت. فالتحرر لا يبدأ فقط بالوعي الطبقي، بل بوعي لغوي، أخلاقي، وتواصلي… يجعل من الإنسان ذاتًا لا أداة، ومن المجتمع حوارًا لا سوقًا. بالمجمل يمكن القول إن هابرماس من أذكى وأعمق من عالجوا التشيؤ المعاصر من منظور عقلاني تواصلي، بعيدًا عن النزعة الثورية العنيفة، وقريبًا من تحقيق التحرر عبر الحوار والمشاركة المجتمعية

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية