حين يتحوّل الإنسان إلى شيء: قراءة في التشيؤ والنظام الاقتصادي الهجين

 

حين يتحوّل الإنسان إلى شيء: قراءة في التشيؤ والنظام الاقتصادي الهجين

بقلم عدنان الطائي 

     ان مفهوم "التشيؤ" (Reification) كما طرحه جورج لوكاش يمثل نقداً جوهرياً للمنظومة الرأسمالية الحديثة، خصوصاً في تعاملها مع الإنسان كرقم، او شيء، أو سلعة، أو وظيفة إنتاجية مجردة. والسؤال الذي نطرحه حول النظام الاقتصادي الهجين (كما في الدنمارك مثلاً) الغرض منه إزالة التناقض مع مفهوم التشيؤ. لذا ينبغي ان يُلقي الضوء على التوتر القائم بين الواقع الاقتصادي الحديث والهوية الإنسانية والفكرية للفرد.

أولاً: عن التشيؤ والواقع الرأسمالي

لوكاش رأى أن الرأسمالية تفكك العلاقات الاجتماعية إلى علاقات مادية باردة، أي يصبح كل شيء قابلاً للبيع والشراء، حتى المشاعر، والعلاقات، والوقت، والهوية. هذه الرؤية كانت نقداً لما آلت إليه المجتمعات الصناعية، حيث الإنسان صار أداة ضمن آلة كبيرة، يُقاس إنتاجه لا روحه. ورغم كونه ماركسيا وطرح هذا المفهوم وسط الأدبيات الماركسية إلا أن المصطلح صار يستخدم من اتجاهات مختلفة حتى غير الماركسية منها لنقد ما آل إليه وضع إنسان الحضارة الغربية.

ثانياً: ماذا عن "النظام الاقتصادي الهجين" كبديل؟

مثل النموذج الاسكندنافي (الدنمارك، السويد، النرويج...) يجمع بين:

  • اقتصاد سوق حر (رأسمالي).
  • ودولة رفاه اجتماعي قوية (تؤمن التعليم، الصحة، السكن، والعدالة الضريبية).

هذا النموذج يسعى لكسر حدة التشيؤ من خلال:

  • توفير الكرامة الاجتماعية.
  • تقليل الفوارق الطبقية.
  • إعطاء الفرد شعورًا بأنه ليس مجرد ترس في آلة الإنتاج. 

ثالثاً: هل هذا يؤدي إلى تشويش فكري؟

نعم، وإلى حد ما، قد يشعر المتلقي العادي بتشويش، وذلك بسبب اختلاط الخطاب:

  • من جهة، يسمع عن الحرية الفردية والسوق والكفاءة.
  • ومن جهة أخرى، يرى دولة تتدخل في التوزيع وتقدم خدمات شبه مجانية.

وهذا يخلق نوعاً من "الازدواجية الإدراكية": هل نحن في نظام رأسمالي أم اشتراكي؟ هل النجاح فردي أم جماعي؟ من المسؤول عن الفشل: الفرد أم الدولة؟ وهذه التساؤلات تفضي بنا الى سؤال اخر وجودي: هل التشويش بالضرورة يكون سلبي؟ ليس دائماً. أحياناً التشويش هو المرحلة الأولى في ولادة وعي نقدي جديد، حيث يبدأ الإنسان بمساءلة المسلمات والبحث عن توازن ويضعنا امام حقائق لابد من محاكاتها:

  • نعم، التشيؤ ما يزال واقعاً قوياً في عالم اليوم، حتى في النماذج الهجينة.
  • النموذج الاسكندنافي يحاول التخفيف منه لكنه لا يلغيه تماماً.
  • ضد "الأتمتة الأخلاقية" التي تريد تحويل الإنسان إلى كائن قابل للقياس فقط التشويش الفكري ليس ضعفًا، بل قد يكون بداية مقاومة فكرية.
  • والأهم، أن نُبقي على الأسئلة حية، لا أن نكتفي بإجابات جاهزة. 

بالمحصلة.. نجد الإنسان بين المطرقة والسوق بين "التشيؤ" وتحولات النظام الاقتصادي الحديث.. ففي عام 1923، كتب الفيلسوف المجري جورج لوكاش كتابه الشهير "التاريخ والوعي الطبقي"، وطرح فيه لأول مرة مفهوم "التشيؤ" (Reification)، وهو من أكثر المفاهيم الماركسية تأثيراً في فهم الاغتراب الإنساني الحديث. كان هدف لوكاش أن يكشف كيف تحوّلت العلاقات الإنسانية، في ظل الرأسمالية، إلى علاقات بين أشياء جامدة، لا تعترف بالفرد ككائن حي، بل كوسيلة إنتاج قابلة للحساب والاستبدال. فالإنسان في مجتمع رأسمالي متطرف يُعامل كرقم في جدول Excelأو كآلة في خط إنتاج:

   هذا العامل يُنتج 50 قطعة في الساعة، يكلفنا 10 دولارات، ويمكن تعويضه بغيره.. هنا
لقد تشيّأ الإنسان؛ لم يعد يُرى كذات حرة، بل كشيء يُقاس ويُستهلك.

   ولكن ماذا عن النماذج الاقتصادية الحديثة التي تحاول التوفيق بين الرأسمالية ودولة الرفاه كالنظام الهجين بين الرأسمالية والدولة الاجتماعية؟ هل نجحت فعلاً في إنقاذ الإنسان من هذا المصير التشيُّئي؟ أم أنها فقط غيّرت وجه الآلة دون أن توقف دورانها؟ حيث تُعد الدنمارك مثالًا للنظام الاقتصادي الهجين، حيث تتعايش السوق الحرة مع الضمان الاجتماعي الواسع. هنا، يجد المواطن ضمانًا صحيًا وتعليميًا وسكنيًا، ودعمًا في أوقات البطالة، دون أن يُسلب حقه في التملك أو ريادة الأعمال. قد يبدو هذا، ظاهريًا، نقيضًا للتشيؤ، لأنه يُعيد الاعتبار للإنسان ككائن يستحق الكرامة والحماية. لكن الواقع أكثر تعقيدًا.

فرغم توفر العدالة الاجتماعية، إلا أن المنطق الرأسمالي ما زال قائمًا في العمق:

  • الكفاءة تُقاس بالإنتاجية.
  • الوقت يُعامل كسلعة.
  • الهوية الفردية مرتبطة غالبًا بقدرة الشخص على "تحقيق الذات" من خلال العمل.

   حتى الدعم الاجتماعي، في كثير من الأحيان، يُبرَّر من منظور اقتصادي كان يقال: "إذا ساعدنا المواطن الآن، سيكون أكثر إنتاجية لاحقًا". وهنا، يظهر تساؤل مشروع: هل نحن أمام تحرير حقيقي للإنسان، أم فقط تلطيف ناعم لمأساته؟ او سقوط المتلقي بين التشويش والتنوير.. فالنظام الهجين يُحدث نوعًا من الارتباك الفكري لدى المتلقي، خاصة من نشأ في بيئة تُقسم العالم بوضوح بين "رأسمالية = استغلال" و"اشتراكية = عدالة".

في الدنمارك مثلاً: تُروَّج قيم السوق والحرية الفردية. وفي الوقت ذاته، تُفرض ضرائب عالية لتمويل الخدمات. والمواطن يُشجَّع على ريادة الأعمال، ولكنه أيضًا يحصل على راتب ضمان في حال الفشل. هل النجاح هنا فردي أم جماعي؟ من المسؤول عن الفشل: الفرد أم الدولة؟
هذه الأسئلة لا تجد دائمًا إجابة حاسمة، مما يؤدي إلى تفتتٍ إدراكي قد يُفضي إما إلى وعي نقدي، أو إلى لا مبالاة فكرية.

ومن هنا ما بين التشيؤ والتحرر، المسار لم ينتهِ، يبقى أن نقول: لا يوجد نظام كامل، ولا إجابات نهائية. لكن المهم هو أن يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما نعيشه اليوم هو فعلاً "خروج من التشيؤ"، أم أننا فقط نرتدي قناع الإنسانية فوق آلة الاقتصاد؟ هل الإنسان يُستعاد فعلاً إلى مركز الحياة؟ أم أن السوق فقط غيّرت شكل أدواتها دون أن تتخلى عن منطقها؟

    في مواجهة كل هذا، ربما لا يكون الحل في تغيير النظام فقط، بل في إعادة تشكيل وعي الإنسان بنفسه وبالآخرين. أن يعود الإنسان إلى أن يُعامل الإنسان… كإنسان.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية