دراسة نقدية في علاقة تيماء بسقوط بابل وما دور إيران فيها

 

دراسة نقدية في علاقة تيماء بسقوط بابل وما دور إيران فيها

بقلم عدنان الطائي

المقدمة

لم تكن نهاية بابل سقوطًا عسكريًا مألوفًا، بل تحوّلت إلى لحظة درامية في تاريخ الشرق القديم، حين ترك ملكها نابونيد عاصمته، وابتعد إلى صحراء الجزيرة العربية ليستقر في تيماء، فاتحًا بذلك ثغرة خطيرة استغلها كورش الفارسي لتغيير مسار التاريخ. إنها قصة تُروى بتشابك الدين والسياسة، بالخيانة والتواطؤ، وربما بالخلاص الموعود.

    نعم، مدينة تيماء في شمال غرب المملكة العربية السعودية تُعد من أقدم وأشهر المدن التاريخية في الجزيرة العربية، ولها ارتباط موثق بأحداث تاريخية مهمة، خاصة فيما يتعلق بالملك البابلي نابونيد (Nabonidus). إليك النبذة التاريخية بشكل دقيق وموثق:

 نبذة عن تيماء تاريخيًا:

     تقع تيماء في شمال غرب الجزيرة العربية، بين المدينة المنورة وتبوك، وهي الآن جزء من منطقة تبوك الإدارية.  تُعد من أقدم المستوطنات البشرية في شبه الجزيرة، حيث تشير الآثار إلى سكنها العنصر البشري منذ الألف الثاني قبل الميلاد.  كانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا مهمًا في طرق القوافل، لوقوعها على طريق البخور والتوابل القادمة من الجنوب نحو الشام وبلاد الرافدين.  سكنها العرب القدماء والآراميون، وذكرت في النصوص الآشورية والعبرية.

 الملك نابونيد (Nabonidus) وعلاقته بتيماء:

     من هو نابونيد؟ هو آخر ملوك بابل (حكم بين 556 – 539 ق.م)، والد الملك بلشاصر (Belshazzar)، وهو الذي ورد ذكره في "سِفر دانيال" في العهد القديم. نابونيد ترك العاصمة بابل في ظروف غامضة وقضى نحو عشر سنوات في تيماء، وهي حادثة فريدة في التاريخ البابلي، إذ لم يكن معتادًا أن يترك ملك بابل عاصمته لهذه المدة الطويلة. وقد اختلف المؤرخون في سبب مجيئه الى تيماء، وكان أبرزها:

- خلاف ديني مع كهنة مردوخ في بابل (حيث كان نابونيد يفضل الإله سين إله القمر) حتى خاض صراعات دينية معهم أدى الى أبعد نفسه عن الحياة السياسية في العاصمة.

- رغبته في فرض عبادة سين في مناطق أخرى، منها شمال الجزيرة العربية في مدينة تيماء واسس فيها معبدا لسين وادار شؤون الدولة البابلية عن بُعد.

- يروم السيطرة على طرق التجارة المارة بتيماء

   عندها أسس قاعدة إدارية وأحدث تغييرات في الحياة الدينية، وهناك نقوش حجرية (كتابات نبطية وآرامية) وُجدت في تيماء توثق هذه المرحلة، مثل النقش الذي يذكر اسم "نابونيد" بشكل صريح. وقد خلف في فترة غيابه ابنه بلشاصر لإدارة الحكم بالوكالة، لكنه لم يكن ملكًا شرعيًا، ولم يحظَ بدعم الكهنة أو الشعب، حيث تحدثت النصوص البابلية والتوراتية عن بلشاصر كرمز للغطرسة واللا مبالاة، وقد ورد اسمه في سفر دانيال كمن رأى "الكتابة على الحائط" في حفلة ملكية صاخبة قبل سقوط المدينة.. حيث لاحظ المؤرخون والمحللون ان غياب نابونيد الطويل أضعف السلطة المركزية، وأثار السخط الشعبي والديني، وترك الباب مفتوحًا أمام التدخل الأجنبي، حيث استغل كورش الأخميني ضعف بابل، ودخلها دون مقاومة تُذكر عام 539 ق.م. فرحبوا كهنة مردوخ بكورش كمحرر وكان الجيش البابلي ضعيفًا ومشتتًا وكان مؤكدا هناك تنسيقًا غير مباشر بين كورش وأقليات منفية منهم اليهود والدليل نفذ كورش ما وعد به لليهود من اعادتهم الى القدس وإعادة بناء الهيكل الذي دمره الملك نبوخذ نصر ومنح كورش صفة مسيح الرب.. وقد ورد هذا الحدث في أسطوانة كورش المكتشفة في بابل، وهو نقش أثري محفوظ اليوم في المتحف البريطاني. وكذلك سفر إشعيا في التوراة.

 أهم الآثار في تيماء:

  • قصر الأبلق من المعالم الأثرية البارزة في تيماء.
  • نقوش آرامية ونبطية، ونقش نابونيد الشهير الذي يعد من أقدم الشواهد المكتوبة لوجود بابل في الجزيرة.
  • الأسوار القديمة والآبار، منها بئر "هداج" الشهيرة.

 مصادر تاريخية تؤكد ذلك:

  • نصوص بابلية مسمارية تؤرخ لغياب نابونيد عن بابل.
  • نقش نابونيد المكتشف في تيماء (وهو محفوظ الآن في المتحف الوطني بالرياض).
  • ما ورد في كتب المؤرخين القدامى مثل "بيروسوس" و"هيرودوت".

   نعم، نابونيد ملك بابل الأخير ترك بابل بإرادته وأقام في مدينة تيماء شمال الجزيرة العربية نحو عشر سنوات، تاركًا إدارة المملكة لابنه بلشاصر الضعيف، وذلك في سياق صراع ديني وسياسي كما اوضحنا أعلاه وتامر اليهود المسبيين وتواطئهم مع كورش الإيراني مقابل ارجاعهم الى القدس وإعادة بناء الهيكل الذي دمره نبوخذ نصر. وتُعد هذه الحادثة من أبرز الروابط بين الحضارة البابلية والجزيرة العربية، هذا من جانب.. ومن جانب اخر ان غياب الملك نابونيد أدى الى قلب التحولات التاريخية الكبرى التي أنهت الحقبة البابلية وفتحت الطريق أمام النفوذ الفارسي في الشرق القديم. لذلك لزاما علينا ان نوضح الأمور بدقة وبتسلسل منطقي، ونربطها بالأدلة التاريخية والأثرية المتوفرة.

 أولاً: هل سهّل خروج نابونيد سقوط بابل؟ نعم، غياب الملك نابونيد عن بابل لعشر سنوات واستقراره في تيماء أضعف بشدة هيبة الدولة المركزية، وأدى إلى:

  • تراجع دور كهنة مردوخ الذين شعروا بالإهانة بعد أن فضّل الملك الإله سين.
  • تزايد النقمة الشعبية بسبب تهميش الطقوس البابلية الكبرى.
  • انقسام إداري: ابنه بلشاصر كان يحكم كوصيّ لكنه لم يكن ملكاً شرعياً، مما جعل الحكم مضطرباً.

    ...هذا الضعف الداخلي، استغلّه كورش الكبير (قورش)، قائد الفرس الأخمينيين، فدخل بابل دون مقاومة تُذكر ليلا من منطقة ضعيفة التحصين من تحت السور من شط الحلة الفرع من نهر الفرات وسهل لهم هذا الاختراق مجموعة من خونة بابل منهم كهنة مردوخ.

 ثانياً: دور اليهود في سقوط بابل

ما هو الموقف التاريخي؟

  • اليهود في بابل كانوا منفيين منذ سبي نبوخذنصر عام 586 ق.م.
  • عانوا من سياسات بابل، خصوصًا نابونيد الذي لم يُظهر اهتمامًا بقضيتهم.
  • عندما جاء كورش، قدّم نفسه كمُحرر للشعوب الخاضعة لبابل منهم اليهود المسبيين، وأصدر مرسومًا شهيرًا سُمّي لاحقًا بـ"مرسوم كورش". الذي ورد نصه على أسطوانة طينية اكتشفت في بابل (موجودة الآن في المتحف البريطاني) الذي جاء فيه أنه أعاد الشعوب المنفية إلى أوطانها، ومن بينهم اليهود. سمح لهم بالعودة إلى القدس وإعادة بناء الهيكل.

التفسير:

  • كثير من المؤرخين يرون أن اليهود ربما رحّبوا أو حتى دعموا كورش.
  • سفر إشعيا في العهد القديم يصف كورش بـ"مسِيح الرب"، أي المختار من الله.
  • هذا يعكس نظرتهم الإيجابية إليه كمحرر، وربما وفّروا له دعماً لوجستياً أو معنوياً.

ثالثا. وهناك ادلة اثرية تؤكد هذه الرواية أبرزها:

 . 1 أسطوانة كورش (Cyrus Cylinder): وعليها نقش مسماري بالفارسية القديمة وُجد في بابل ويتحدث عن تحرير الشعوب، وتقديم كورش على أنه ملك عادل وحامي الديانات.

.2 نقوش نابونيد: وُجدت في تيماء وتوثق وجوده هناك وتُظهر تركيزه على عبادة الإله سين وتجاهل مردوخ.

. 3 سفر دانيال وسفر إشعيا: رغم أنهما مصادر دينية، إلا أنهما تؤرخان للسياق السياسي الذي مهّد لسقوط بابل، حيث تصف بلشاصر بأنه "ابن نابونيد" وأن سقوطه كان مفاجئًا (رؤيا "الكتابة على الجدار").

. 4 النقوش البابلية الأخيرة: توقفت تقريبًا في فترة نابونيد، وتُظهر خمول النشاط الإداري وسجلت دخول كورش دون معركة تُذكر.

 رابعاً: هل ينبغي أن يُوَبَّخ نابونيد تاريخيًا؟

من وجهة نظر سياسية وإدارية: نعم، نابونيد يُعَد واحدًا من أسوأ الملوك البابليين في الإدارة، حيث ترك العاصمة لعقد كامل، كما انه خالف تقاليد دينية مركزية لشعبه، مما سبب باضطراب داخلي مهّد الطريق للفرس لاحتلال بابل صاحبة الحضارة العظيمة التي اتصف حكمها بالجهات الأربعة، أي امتدت الى البلدان من جهة بابل الأربعة.. ولكن من وجهة نظر تاريخية بحتة، هو شخصية مثيرة للجدل، وليس مجرّد "خائن". البعض يرى أنه كان مصلحًا دينيًا يحاول توحيد عبادة سين في المنطقة، ولكنه فشل في قراءة الواقع السياسي.

خلاصة القول وبإيجاز نرى ما يلي:

  • خروج نابونيد إلى تيماء سهّل فعليًا سقوط بابل.
  • كورش استغل الفوضى الداخلية والبغضاء الدينية في بابل.
  • من المؤكد أن اليهود، بحكم وضعهم كمنفيين، رحبوا بسقوطها واعتبروا كورش مُخلّصًا، وما يدل على ذلك مازال اليهود في عقولهم وادبياتهم ليومنا هذا يكرهون بابل ويرومون هدمها عن بكرة ابيها.
  • الأدلة الأثرية كافية لتأكيد هذه الرواية: نقوش تيماء، أسطوانة كورش، النصوص البابلية، والأسفار التوراتية.

خلاصة القول: إن سقوط بابل لم يكن نتيجة معركة، بل نتيجة انسحاب ملك، وخيانة كهنة بابل، وتواطئ اليهود المسبيين في بابل وأملها العودة الى فلسطين، ودهاء قائد فارسي  مثل كورش وكانت تيماء في غياب يمثل في ملك بابل الأصلي نابونيد ، وكانت بابل هي الضحية، وصار كورش هو الفائز والمتحكم في بابل الذي أعاد رسم خريطة الشرق القديم لصالح ايران.

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع