نرجسية المجد: من خُيلاء المتنبي إلى زهو عائشة الأندلسية

 

نرجسية المجد: من خُيلاء المتنبي إلى زهو عائشة الأندلسية

عدنان الطائي

    في عمق الذات البشرية، يختبئ مزيج متضارب من الحاجة للاعتراف والرهبة من الانكشاف. وقد اتّخذ هذا التناقض صورته الأشد توهجًا في نصوص الشعراء الذين خاضوا معارك المجد بالكلمات، وتمردوا على تواضع الأرض بطموحات تعانق السماء. هنا، نقف أمام مرآتين لامعتين: واحدة لرجل يدّعي الخلود، وأخرى لامرأة تجاهر بتفوّقها على نظيراتها ومخالفيها وتدعي الالوهية الذاتية.

    حين ينفصل الإنسان عن حقيقته ويستبدل ذاته بقناع من التفوق الزائف، تنشأ "الكبرياء الكاذبة" أو "الأنَا المنتفخة"، تلك التي تتغذى على الوهم، وتعيش على أنقاض التواضع، متدثرة بنرجسية مفرطة أو استعلاء مغرور. الكبرياء الزائف ليس إلا خوفاً مموهاً، يخشى أن ينكشف ضعفه الداخلي، فينقلب إلى تعالٍ مرضي، لا يطلب الاحترام، بل يفرض الخنوع، فأصاب الاثنان، ذكر وانثى مرض التعالي والكبرياء الزائف.

   وهكذا نرى أن نرجسية المتنبي متجذّرة في مشروع ذاتيّ يسعى للخلود الأدبي كنبي، بينما نرجسية عائشة وليدة العظمة والتفرد كإلهة. النرجسية إذًا، ليست علامة تفوق، بل امتحانٌ عسيرٌ بين العبقرية والجنون.. بين النبوة المتخيلة والألوهية المتوهّمة.. نجدها في الشعر الأندلسي، برزت الشاعرة عائشة القرطبية في قصيدة شهيرة تغلو فيها بنرجسية أنثوية لافتة، تقول فيها:

أنا عائشةٌ ذاتُ الحُسنِ يُعرفُني
لي الحُسنُ والتِّيهُ والأَنفُ النافِرُ
كأنني البدرُ إن لاحَ الهوى قَمَرا
فكلُّ من رآني، سجدَ وانكسرَ!

إنها نرجسية شاعرية آسرة، لكنها تفيض بالزهو المُتخم، تتجاوز حدود الفخر المشروع لتصل إلى حدود التأليه الذاتي. وفي المقابل، نرى صورة فوقية الرجل في قول المتنبي، شاعر الكِبر والتعالي، حتى ادعى النبوة إذ قال:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

    ففي حين تفتخر عائشة بجمالها وتيها، يفتخر المتنبي بخلوده الأدبي وسيفه القاطع. كلاهما يصعد سلّم التميز، لكنها نرجسية أنثى مقابل تعالي ذكر. الفرق بينهما ليس فقط في الجنس، بل في نوع الزيف: نرجسية الأنثى غالباً ما تكون ردة فعل على قمع تاريخي طويل، فترفع نفسها في وجه دونية فُرضت عليها. أما فوقية الرجل، فكثيراً ما تكون ثمرة ترف سلطوي تعوّد الامتياز دون مساءلة. وليس عيباً أن يعتز الإنسان بنفسه، ولكن الكبرياء حين يعمي البصيرة، ويُقزّم الآخرين ليبدو عملاقا، فهنا نحتاج إلى وقفة نقدية، وإلى اقتباسات تفضح زيف هذه المواقف:

"النرجسي لا يرى الآخرين إلا مرآةً لذاته، وإن كُسِرت، لام المرآة لا صورته المشوهة."
سيغموند فرويد

"أخطر ما في النرجسية أنها تُقنع صاحبها بأنه إله صغير يمشي بين الناس، بينما الناس يرونه طفلاً يصرخ في مِرآة."

 ألبير كامو، بتصرّف

وختاماً، فإن الفوقية الزائفة — سواء جاءت من رجل أم امرأة — هي مجرد قناع هشّ سرعان ما يسقط أمام مرآة الحقيقة. لا يخلّد الإنسان بعلو صوته، بل بسمو جوهره. نجد ان المتنبي لم يكن يمدح نفسه فقط، بل نَصّب ذاته نبيًّا للحرف، ورسولًا للبلاغة.. اما عائشة الأندلسية، فهي لم تتحدّث عن جمالها كأنثى فقط، بل صاحت: أنا الشمس، أنا الجوهر، أنا الوجود! كأنها ترفض أن تكون بشرًا، متعالية على الأنوثة والقيود، ومعلنة ولادتها كإلهة من نار لا تُطفأ.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية