التنازل الصغير وبداية بيع الروح: قراءة نقدية في مقولة مالكوم إكس

 

التنازل الصغير وبداية بيع الروح: قراءة نقدية في مقولة مالكوم إكس

"أول خطوة في بيع الروح، هي القبول بتنازل صغير تظن أنه لا يهم."
مالكوم إكس

المقدمة

تبدو هذه العبارة في ظاهرها حادة، قاطعة، كأنها جرس إنذار يدقّ في وجه كل من يقرر التنازل ولو بمقدار بسيط. وهي بالفعل كذلك، ولكن هل يعني هذا أن على الإنسان أن يرفض أي تنازل على الإطلاق؟ هل التنازل دومًا خيانة للذات وبداية لبيع الروح؟ هنا تظهر خطورة التعامل مع المقولات كحقائق مطلقة دون فحص للسياق والنية في مقولة مالكوم اكس مستخلصا الراي من خلال سلوكه وتكوينه النفسي والبايولوجي ما إذا كان تشاؤميا او غير ذلك عندها يكن حكمنا منصفا وعادلا بما قاله، بل من هو مالكوم إكس من الداخل، وما هي رؤيته الوجودية؟

السيرة الذاتية لسلوك مالكوم

هل كان مالكوم إكس شخصًا تشاؤميًا؟

الجواب: لا، لم يكن تشاؤميًا بالمعنى الفلسفي أو النفسي، بل كان واقعيًا ثوريًا، حادّ البصيرة، عميق الغضب، يبحث عن الكرامة ولو في وجه الموت. ولنبسط المسالة أكثر ونتحدث عن سماته النفسية والسلوكية فهو:

  • عنيد في الحق لم يكن يقبل أنصاف المواقف، وكان يرى في السكوت عن الظلم نوعًا من التواطؤ.
  • شجاع وآمن بقوة التغيير من الداخل، وغيّر نفسه بالكامل من مجرم سابق إلى مفكر وخطيب ثوري.
  • واقعي وليس متشائمًا حيث لم يكن يُجمّل الواقع، بل واجهه بكل ما فيه من عنصرية واضطهاد، لكنه فعل ذلك لا بدافع اليأس، بل بدافع التحريض على الكرامة.
  • صريح إلى حد الصدمة حيث كانت عباراته صادمة أحيانًا، لأنه أراد إيقاظ الوعي لا تخديره.
  • في بداياته، كان أكثر حدةً وعنصرية ضد البيض، تحت تأثير جماعة (أمة الإسلام) بعد اسلامه، الا انه بعد زيارته للحج في مكة، تغيّر فكره كثيرًا، وبدأ يدعو إلى التسامح والتعاون بين البشر بغضّ النظر عن العرق.
  • في آخر حياته، اتجه نحو العدالة الشاملة لا الانتقام، وبدأ ينتقد حتى من كانوا حلفاءه السابقين، مما أدى إلى اغتياله عام 1965.

اذن كان ذو فكرا نضاليا ثوريا، لكنه ليس سوداويًا، اذ كان يرى أن الكرامة لا تُطلب، بل تُنتزع، لذلك مقولاته تبدو حادّة وفاقد الثقة في كل شيء حتى في ذاته، لأنها ولدت من بيئة الظلم، لا من روح قاتمة.

خلاصة القول

   مالكوم إكس لم يكن متشائمًا، بل كان مقاومًا شرسًا للانهزام، ومؤمنًا بأن الإنسان إن لم يدافع عن نفسه وقيمه، فسيُسحق. فمقولته عن "بيع الروح" تنبع من خوفه على الإنسان من الانزلاق التدريجي نحو العبودية الجديدة: عبودية الفكر والمصالح.

فالمقولة ليست قانونًا أخلاقيًا شاملاً، حين ننزع منها سياقها الثوري والفكري، ونُلصقها بالحياة اليومية، نصطدم بإشكالية كبيرة. فليس كل تنازل صغير هو خيانة للمبدأ، وليس كل تراجع هو انحدار. أحيانًا يكون التنازل الصغير خطوة نحو التفاهم، نحو حفظ كرامة الآخر، أو حتى حفاظًا على السلام الداخلي. وهنا، يُصبح التنازل فعل نُضج لا ضعف. وان ما أراد مالكوم تحذيره على الغالب، هو ذلك التنازل الذي ينبع من الجُبن أو الطمع أو الانبطاح أمام سلطة فاسدة أو مغريات مادية على حساب المبادئ. أما التنازلات التي تنبع من حكمة أو رحمة أو تسامح، فهي لا تندرج ضمن "بيع الروح"، بل ربما تكون فعلًا من أفعال "نجاة الروح".

 ولكن الخطر في الفهم المتطرف للمقولة في زمن يُحتفى فيه بالشعارات والمواقف المتصلبة، قد تتحول هذه العبارة إلى سلاح يُستخدم لتبرير العناد الأجوف، أو لرفض كل حوار أو تفاهم، بحجة أن أي مرونة هي بداية للانهيار. وهذا فهم مقلق وخطير، لأنه يعزّز النرجسية والتطرف الفردي، ويقتل قيم التسامح والنقد الذاتي. وفي الختام: لا مطلق إلا للقيم العليا

وما علينا الا أن نتعامل مع مثل هذه المقولات بوصفها مواقف فكرية نسبية، تخاطب ظرفًا معينًا، ولا تصلح دائمًا كدساتير أخلاقية ثابتة. التنازل ليس مرادفًا للخذلان، إلا حين يكون على حساب الكرامة والحق. وما عدا ذلك، فهو أحيانًا فن من فنون البقاء.

 الا من الاجدر علينا ان نطرح سؤالا محوريا قبل الحكم عليه سلبا، ما دام قد فهم الإسلام، أن يتبنى التوازن والاعتدال بدلًا من التطرّف في الرأي وان الإسلام يتبنى مقولة (خير الأمور اوسطها)؟

الحقيقة الساطعة أن مالكوم إكس قد بدأ حياته على أطراف النقيض، لكنه انتهى إلى الاقتراب من الوسطية الإسلامية، لا بالقول فقط، بل بالفعل أيضًا بعد أدائه فريضة الحج عام 1964،كما اسلفنا، اذ تغيّر فكر مالكوم إكس بعمق. فقد أدرك أن:

  • الإسلام ليس دينًا للعرق الأسود فقط، بل دين مساواة عالمية.
  • التسامح لا يعني الاستسلام، والتغيير لا يعني القطيعة الكاملة مع الآخر.
  • الكرامة لا تتحقق بالصدام الأبدي، بل ببناء وعي جماعي مشترك.

ولكن يا للأسف، لم يُتح له العمر الكافي ليطوّر فكره الوسطي ويجذّره في الواقع السياسي والاجتماعي، إذ تم اغتياله بعد أقل من عام من تحوّله الفكري.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية