ثقافة المديح السلطاني: هل هي سمة عربية خالصة؟ قراءة نقدية مقارنة في ظاهرة تأليه الحاكم في الشعر العربي وغيره من الآداب العالمية

 

ثقافة المديح السلطاني: هل هي سمة عربية خالصة؟

قراءة نقدية مقارنة في ظاهرة تأليه الحاكم في الشعر العربي وغيره من الآداب العالمية

تقديم:

في بيتين شهيرين منسوبين إلى ابن هانئ الأندلسي، قال في مدح الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ... فاحكم فأنت الواحدُ القهارُ
وكأنما أنت النبي محمدٌ... وكأنما أنصارُك الأنصارُ

هذان البيتان تجاوزا حدود المدح التقليدي إلى تأليهٍ صريحٍ للحاكم، ما دعا المفكر والكاتب المصري الدكتور أحمد خالد توفيق إلى القول : "أية أمة يُقال فيها كلام كهذا هي أمة مقضي عليها بالفناء."¹ لكن هل هذا النوع من المديح المفرط هو ظاهرة عربية خالصة؟ أم أن ثقافات أخرى شاركت العرب هذا التقليد وإن اختلفت في شدته أو شكله؟

أولًا: المدح والتأليه في الشعر العربي

     يتميّز الشعر العربي، لا سيما في العصور الأموية والعباسية، بوجود تيار عريض من شعراء البلاط، الذين ارتبطوا بالحاكم بعلاقة تبادلية: المديح مقابل المال. وتجاوز بعضهم المدح إلى تأليه الحاكم، كما في شعر ابن هانئ أو المتنبي في بعض قصائده. وقد أضفى هذا النوع من الشعر طابعًا تقديسيًا على السلطة، وحوّل الشاعر من ناقد اجتماعي إلى أداة سلطوية لتكريس الشرعية السياسية والدينية. مثال: قول المتنبي في سيف الدولة:
إذا نظرتَ نيوبَ الليثِ بارزةً... فلا تظنّن أن الليثَ يبتسمُ. وهذا النوع من الشعر لم يكن هامشيًا، بل كان متجذرًا في الثقافة السلطانية للعرب، وامتد أثره إلى عصور الانحطاط وما بعدها، حتى في بعض النتاجات الأدبية الحديثة.

ثانيًا: المقارنة مع الأدب الفارسي

    عرف الشعر الفارسي، وخصوصًا في العصر الغزنوي والصفوي، ظاهرة مشابهة. فقد كتب الفردوسي "الشاهنامة" لصالح السلطان محمود الغزنوي، وطالبه بالمكافأة التي لم تُعطَ له في البداية، فهجاه لاحقًا². وكتب أنوري وسعدي أيضًا قصائد مدحٍ متطرفة، تصور الحاكم وكأنه ظل الله في الأرض³. ويُلاحظ أن هذه العلاقة أيضًا اتسمت بالطابع المادي الصريح، فكان الشاعر ينتظر العطاء بعد المدح، ما يُشير إلى تشابه واضح مع النموذج العربي.

ثالثًا: النموذج الفرنسي – تأليه رمزي لا ديني

في بلاط الملك لويس الرابع عشر، ازدهر ما يُعرف بـ Panegyric Poetry، أي قصائد التمجيد الملكي. وقد شبّه بعض الشعراء الملك لويس بـ"الشمس"، واعتبروه محور الكون. لكن المديح هنا، رغم مبالغاته، لم يكن تأليهًا دينيًا صريحًا، بل كان نوعًا من الرمزية المطلقة المرتبطة بالملكية المقدسة، وغالبًا ما كان جزءًا من ثقافة رسمية لا ترتبط بالمقابل المالي المباشر.

رابعًا: مدح الحاكم في الصين الإمبراطورية

    في الصين التقليدية، كان المدح الإمبراطوري جزءًا من شعر البلاط، خاصة في عهد سلالتي تانغ وسونغ. وكان شعراء مثل "لي باي" و"دو فو" يكتبون عن الإمبراطور ضمن حدود كونفوشيوسية صارمة، لا تسمح بتأليهٍ ديني، بل تركز على الحكمة، والعدل، والسلام. فمدح الإمبراطور كان تهذيبًا أخلاقيًا أكثر من كونه تمجيدًا لاهوتيًا.

الخاتمة: هل هو نفاق عربي خالص؟

عند المقارنة، نجد أن المديح المفرط للحاكم، بل وتأليهه، ليس حكرًا على العرب، لكن ما يميز التجربة العربية تحديدًا هو:

1.  التأليه اللفظي الصريح، واستخدام ألفاظ تُنسب عادةً لله أو للأنبياء.

2.  العلاقة الاقتصادية المباشرة بين الشاعر والسلطان.

3.  تحوّل الشعر من سلطة رقابية على الحاكم إلى أداة دعائية له.

    وبذلك، فإن ما أشار إليه الدكتور أحمد خالد توفيق صحيح في توصيفه لحدة الظاهرة في الثقافة العربية، لكنه ليس دقيقًا حين يعتبرها ظاهرة حصرية. فثقافة النفاق السياسي ليست عربية، بل إنسانية شاملة، لكنها عند العرب بلغت ذروتها اللاهوتية، فتجاوزت المدح إلى العبادة، وتحوّل فيها الحاكم إلى إله صغير، والشاعر إلى كاهن يكتب آياته بمداد الذل والطمع.

الهوامش والمراجع:

1.  أحمد خالد توفيق، مقال في أدب السلطة، منشور في سلسلة "قصاصات قابلة للحرق"، دار ليلى، القاهرة، 2012.

2.  نصر الله، عبد الواحد. الفردوسي والشاهنامه، طهران، 1980.

3.   Arthur John Arberry, Classical Persian Literature, Routledge, 1958.

4.   Peter Burke, The Fabrication of Louis XIV, Yale   University Press, 1992.

5.   Stephen Owen, The Poetry of the Early T’ang, Yale University Press, 1977.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية