العلاقة بين الحضارة الفارسية وحضارتي بابل وآشور

 

العلاقة بين الحضارة الفارسية وحضارتي بابل وآشور

تحليل تاريخي للامتداد الحضاري والتأثير الثقافي

بقلم عدنان الطائي

مقدمة

شهد الشرق الأدنى القديم ظهور العديد من الحضارات العريقة التي أسهمت في صياغة ثقافة وتاريخ المنطقة، ومن أبرزها الحضارتان البابلية والآشورية في العراق، والحضارة الفارسية في إيران. يُثار أحيانًا سؤال حول مدى تأثير الحضارتين البابلية والآشورية على الحضارة الفارسية، وهل يمكن اعتبار الحضارة الفارسية مجرد امتداد ثقافي وتقليد لهاتين الحضارتين؟ ام ايهما كانت الحضارة قبل الاخر في الظهور ومدى تأثير أحدهما على الاخر على الجوانب الثقافية، السياسية، والدينية. من هنا لابد من وضع مقارنة بين الحضارتين منذ نشأتهما:

الحضارة البابلية والآشورية: نظرة مختصرة

ظهرت الحضارة العراقية في الالف الرابع قبل الميلاد واستمرت ليومنا هذا.. فكانت بابل وآشور من بين أعظم حضارات العراق القديم. اشتهرت بابل بإنجازاتها في العلوم، الأدب، والفن، وأبرز ما تركته هو قانون حمورابي، أحد أقدم القوانين المكتوبة. أما آشور، فقد برعت في التنظيم العسكري والإدارة، وكانت قوتها مهيمنة على مناطق شاسعة من الشرق الأدنى.

الجانب الديني والثقافي

الدين كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة في بابل وآشور، حيث لعبت الآلهة مثل مردوخ وآشور دورًا مركزيًا في المعتقدات والقيم الاجتماعية. كما ساهمت الأساطير السومرية والبابلية، مثل ملحمة جلجامش، في تشكيل أدب المنطقة.

الجانب السياسي والإداري

تميزت الإمبراطورية الآشورية بنظام مركزي صارم، حيث كانت السلطة تتركز في يد الملك. أما بابل، فقد اشتهرت بإنجازاتها القانونية والإدارية التي ساهمت في استقرار الحكم.

الحضارة الفارسية: نشأة وتطور

ظهر الفرس والميديون (آريون) – 1000 – 550 ق.م. الا ان الإمبراطورية الفارسية الاخمينية (550–330 ق.م.) ظهرت على يد كورش الكبير اي في القرن السادس قبل الميلاد، بعد سقوط بابل عام 539 وهو مؤسسوها الأول واستطاعت هذه الامبراطورية أن تصبح واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ القديم. امتدت من الهند شرقًا إلى اليونان غربًا.

الجوانب المشتركة بين الحضارات

يمكن رصد العديد من العناصر المشتركة بين الحضارة الفارسية وحضارتي بابل وآشور. الفرس استفادوا من الأنظمة الإدارية الآشورية، لاسيما فكرة تقسيم الإمبراطورية إلى ولايات يحكمها الحكام المحليون. كذلك، تأثروا بالتراث القانوني البابلي، حيث حافظوا على تنظيم القوانين في مناطقهم الشاسعة. كما تبنّت الحضارة الايرانية الكثير من مؤسسات بابل وطقوسها، بل حافظ كورش الكبير على الكهنة البابليين ومراسيمهم، وسجّل ذلك في أسطوانة كورش الشهيرة، وكذلك داريوس الكبير استخدم المسمارية وكتب بها نقوشًا رسمية (مثل نقش بيستون)، وهذا يعني ان الحضارة الإيرانية اقتبست: النصوص المسمارية.. اللغة الأكدية بلهجاتها.. الأنظمة القانونية، الدينية، والإدارية في العراق القديم، على الرغم من وجود اختلافات بين الديانة الزرادشتية الفارسية والمعتقدات البابلية والآشورية، إلا أن هناك تأثيرًا واضحًا في تبني الفرس بعض التقاليد الدينية والممارسات الطقسية كما اشرت سابقا.. لكن لا يمكن وصف الحضارة الفارسية بأنها مجرد تقليد لحضارتي بابل وآشور، بل إنها تُظهر مزيجًا من التأثيرات والابتكارات. الفرس أضافوا رؤيتهم الخاصة إلى الإنجازات السابقة، مما جعلهم قادرين على تطوير إمبراطورية قوية ومزدهرة.

  فالإمبراطورية الفارسية لم تكن فقط مستفيدة من الحضارات المجاورة، بل كانت أيضًا مبتكرة في العديد من الجوانب، مثل بناء طرق التجارة الكبرى، وإرساء سياسة التسامح الديني التي ساعدت في إدارة الإمبراطورية المتنوعة. وقد تميزوا: بالأخلاق العسكرية والسياسية. واحترام الأديان الأخرى. وتنظيم الدولة الأخمينية بشكل فدرالي واسع. وهذا يدل على أن للفرس شخصية حضارية مستقلة، وإن كانت متأثرة بجيرانها. كما دلت الوقائع، حيث يظهر في الجامعات، تدريس حضارة فارس القديمة (الأخمينيين والساسانيين) ضمن مجال مستقل يُعرف باسم الدراسات الإيرانية القديمة (Old Iranian Studies)، أو أحيانًا ضمن علم "اللغات الإيرانية" و"تاريخ الشرق الأدنى"... عندها يصح القول: كما أن بابل تأثرت بسومر، وكما أن روما تأثرت بالإغريق، كذلك فارس تأثرت ببابل، لكنّها لم تكن ظلًا لها.

الخاتمة

   بالرغم من أن الحضارة الفارسية قد تأثرت بحضارتي بابل وآشور، إلا أنها لا تُعتبر تقليدًا مباشرًا لهما. لقد استفادت من العناصر الإدارية والثقافية والدينية لهذه الحضارات واستطاعت أن تبني على أساسها إمبراطورية فريدة من نوعها. هذا التفاعل الحضاري يُظهر كيف أن الحضارات تتشكل من خلال التبادل الثقافي والابتكار. ومن هذا الطرح يمكننا توضيح اتجاه التأثير الحضاري بين العراق وإيران عبر التاريخ، بشكل علمي ومتوازن.. ونقول (من أثّر فيمن؟) هل حضارة العراق اثرت على حضارة إيران ام العكس صحيح؟

   فمن الطبيعي ان التاريخ يُجيب على تساؤلاتنا بوضوح من ان الحضارة العراقية أقدم من الفارسية بآلاف السنين. اذ يلاحظ ان:

العراق شهد نشوء الكتابة، القوانين، والفكر الديني المنظم منذ الألف الرابع قبل الميلاد. أما فارس، فظهرت إمبراطوريتها الأخمينية في القرن السادس ق.م اي بعد سقوط بابل.

    وذلك بدلالة ما ورد بكتاب "انتصار الحضارة", لجيمس هنري برستد، حيث أشار الى أن الفرس، بعد دخولهم بابل، تبنّوا الكثير من نظمها، واستخدموا المسمارية، واحتفظوا بكهنتها ومراسيمها الدينية. وكذلك المؤرخ الإغريقي هيرودوت كتب بإعجاب عن الفرس، لكنه أقرّ بتأثرهم بجيرانهم الرافدينيين كما اوضحنا اعلاه.. ولكن التاريخ لا ينكر تأثر العراق لاحقًا بالحضارة الإيرانية بعد أن أصبحت تحت الحكم الفارسي الأخميني، ثم الساساني، جاء التأثير في ميادين محدودة، منها:

  • الدين: مثل ظهور الزرادشتية والمانوية في العراق.
  • الإدارة: مع بعض التعديلات الفارسية على النظام الإداري البابلي.
  • السياسة: خاصة في العهد الساساني، حيث فُرضت النظم المركزية والدينية.

     ولكن بقيت اللغة، والهوية الثقافية، والفكر الفلسفي في العراق مستقلا ومميزا، حتى في ظل الهيمنة الفارسية. اذن العراق هو من صدّر الحضارة نحو فارس، لا العكس. ونتيجة تداخل الزمن والإمبراطوريات حدث تفاعل متبادل، لكن العمق الحضاري للعراق ظلّ لصالح وادي الرافدين، حيث وُلدت أولى معالم الحضارة الإنسانية. لكن هذا لا يعني أن بلاد فارس كانت بلا شخصية حضارية. بل امتلكت تراثًا مستقلًا:

  • لغتها الخاصة (الأفيستية ثم الفارسية القديمة).
  • ديانتها (الزرادشتية).
  • نظامها السياسي الواسع، الذي جمع بين التعدد العرقي والتسامح الديني، كما وصفه المؤرخ الإغريقي هيرودوت بإعجاب في كتابه "التاريخ".

 لذلك لا يمكن القول ان الحضارة الإيرانية نسخة من حضارة بابل واشور، ولا يمكن وصفها بانها نسخة مقلدة من تلك الحضارتين، بل هي قد تأثرت بشكل كبير بحضارتي بابل واشور، لما لحضارة العراق من عمق حضاري تاريخي موغل بالقدم.. كما مبين من المقارنة بينهما ادناه: 

     بداية فجر الحضارة في العراق بدأت من جنوب بلاد الرافدين (ميزوبوتاميا) بين نهري دجلة والفرات.. هذه الحضارة تعود الى أولى المستوطنات الزراعية نحو 8000 ق.م. ولكن بداية الحضارة المُنظمة، بالمعنى الدقيق، كانت حوالي 4000 ق.م. – في منطقة "الوركاء" (أوروك)، حيث نشأت أول مدينة كبرى في التاريخ.. وقد مرت بمراحل متعددة كالاتي:

 .1 الحضارة السومرية حوالي 4000 – 2000 ق.م.

  • أول من أنشأ المدن (مثل أوروك، أور، لجش).
  • اخترعوا الكتابة المسمارية حوالي 3200 ق.م.
  • أسسوا النظام الإداري، القانوني، والتعليم الديني.
  • أشهر إنجاز لها: ملحمة جلجامش، أقدم نص أدبي في العالم.

. 2 الحضارة الأكادية 2350 – 2150 ق.م.

  • بقيادة سرجون الأكدي، أول إمبراطورية موحدة في التاريخ.
  • دمجوا اللغة الأكدية بالسومرية.

. 3 الحضارة البابلية 1894 – 539 ق.م.

  • حكم حمورابي ووضع أول قانون مكتوب معروف.
  • تطورت العلوم والرياضيات والفلك.

4. الحضارة الآشورية القرن 14 ق.م. – 612 ق.م.

  • قامت في شمال العراق (نينوى وآشور).
  • عُرفت بالقوة العسكرية والتنظيم الإداري.
  • تركوا مكتبة ضخمة مثل مكتبة الملك آشور بانيبال.

. 5 بابل الجديدة / الكلدانية 626 – 539 ق.م.

  • أشهر ملوكها: نبوخذ نصر الثاني.
  • بناء الجنائن المعلقة.
  • ازدهار علم الفلك والعمارة.

 ومن مميزات حضارة العراق:

  • أول من كتب القانون.
  • أول من نظم التعليم والمدارس.
  • أول مدينة في العالم (أوروك).
  • أول وثيقة للحرية الدينية (أسطوانة كورش – لاحقًا لكن في بابل).

وبقت الحضارة قائمة حتى انتهت بــ دخول كورش الفارسي إلى بابل عام 539 ق.م. وبعدها أصبح العراق تحت حكم الإمبراطوريات الأجنبية (الأخمينية، السلوقية، الفرثية، الساسانية، ثم الإسلامية).

اذن يمكن القول: أن حضارة العراق بدأت رسميًا منذ حوالي عام 4000 قبل الميلاد، أي قبل أكثر من 6000 سنة من الآن. وما زالت بصماتها حاضرة ليومنا هذا في كل حجر ولغة وفكرة في التاريخ الإنساني.

 اما الحضارة الإيرانية القديمة فقد ظهرت عند الهضبة الإيرانية (الواقعة شرق بلاد الرافدين)، وتشمل اليوم إيران وبعض أطراف أفغانستان وباكستان وتركمانستان. وكان في بداياتها وجود القبائل الآرية (Indo-Iranians) التي هاجرت من شمال آسيا الوسطى إلى الهضبة الإيرانية حوالي: 1200 ق.م. – 1000 ق.م. وقد مرت الحضارة الإيرانية بمراحل أساسية للتطور منها: 

. 1 حضارة عيلام (Elam) – 2700 – 640 ق.م.

  •  ظهرت في جنوب غربي إيران (محافظة خوزستان اليوم).
  • كانت أقدم من الفرس والميديين، وتفاعلت كثيرًا مع بابل وآشور.
  • عُرفت بكتابة خاصة بها وفن معماري مميز.
  • لكن هذه الحضارة ليست "إيرانية آرية"، بل حضارة محلية مستقلة. وان العيلاميين ليسوا فرسًا، بل سبقوهم، وانتهت حضارتهم قبل بزوغ نجم فارس.

.2 الفرس والميديون (آريون) – 1000 – 550 ق.م.

بالنسبة للميديين (Medes)، حيث

  • استقروا في شمال غرب إيران (منطقة همدان الحالية).
  • أسسوا مملكة قوية في القرن السابع ق.م.
  • شاركوا في سقوط الإمبراطورية الآشورية سنة 612 ق.م. مع البابليين.
  • لم يتركوا آثارًا مكتوبة، وما نعرفه عنهم جاء من الإغريق والبابليين.

بالنسبة للفرس (Achaemenids):، حيث ظهروا في الجنوب (فارس/برسيـس). وكان كورش الكبير (Cyrus the Great) أول من أسس إمبراطوريتهم عام 550 ق.م. بعد أن أسقط الميديين. واسس أول إمبراطورية فارسية حقيقية بعد سقوط بابل عام 539 ق.م. وبدأ عصر الإمبراطورية الفارسية الأخمينية التي امتدت من الهند إلى مصر واليونان. وقد تميزت هذه الإمبراطورية باحترام الأديان. وبنظام حكم مركزي واستخدام اللغة المسمارية الى جانب الفارسية وبناء "برسيبوليس" العاصمة الاحتفالية العظيمة. وادناه الإمبراطوريات التالية التي حكمت إيران:

 

الإمبراطورية

المدة

ملاحظات

السلوقية

330 – 150 ق.م.

يونانية بعد الإسكندر، لا تُعد فارسية

الفرثية (الأرشكية)

247 ق.م. – 224 م

عودة الحكم الإيراني، نظام فيدرالي

الساسانية

 224 – 651م

 أقوى دولة فارسية قبل الإسلام، تبنّت الزرادشتية رسميًا

 الخلاصة:

الحضارة الإيرانية الآرية (الفارسية) بدأت فعليًا حوالي 1000 ق.م.، لكنها لم تتحول إلى حضارة دولية مؤثرة إلا مع الإمبراطورية الأخمينية (550 ق.م.). أما ما قبلها، كحضارة عيلام، فهي محلية وإثنيًا لا تُعد فارسية.

 مقارنة سريعة:

الحضارة

بداية الظهور

سابقة؟

العراق (سومر)

4000 ق.م.

أقدم بأكثر من 3000 سنة

إيران (الفرس)

1000 ق. م

ظهرت متأخرة وتأثرت بالرافدين

 

               


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

الإبراهيمية: بين دعوة التعايش ومشروع التطبيع