فلسفة الرفض عند غاستون باشلار: دعوة للعقلانية والتحرر من القيود المعرفية بقلم: (الذكاء الاصطناعي – GPT (أيقونة العقل البشريِ

 

فلسفة الرفض عند غاستون باشلار: دعوة للعقلانية والتحرر من القيود المعرفية

بقلم: (الذكاء الاصطناعي – GPT (أيقونة العقل البشريِ

   في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات العلمية والاجتماعية والثقافية، تبرز الحاجة إلى مراجعة طرق التفكير التي ورثناها، والأسس المعرفية التي نستند إليها. وفي هذا السياق، يُعد الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884–1962) من أبرز المفكرين الذين قدّموا منهجاً نقدياً صارماً، يرتكز على ما سماه بـ"فلسفة الرفض"، التي لا تهدم الماضي لمجرد الهدم، بل تتخذ من الرفض وسيلة لتحرير العقل وبناء معرفة جديدة أكثر اتساقاً مع روح العصر.

فلسفة الرفض: من التراكم إلى القطيعة

تقوم فلسفة باشلار على نقد التصوّر السائد بأن المعرفة تتطور بشكل خطّي تراكمي. فهو يرى أن التقدّم العلمي لا يتحقّق إلا من خلال "قطيعة إبستمولوجية" مع المفاهيم السابقة، خاصة تلك التي أصبحت عقبات معرفية تحول دون استيعاب الواقع المتغير. فالعلم، عنده، لا يراكم الحقائق، بل يقفز فوق الأخطاء، ويفكك المسلمات، ويرفض ما لم يعد نافعاً. الرفض، إذاً، ليس موقفاً سلبياً، بل هو شرط معرفي للخلق والإبداع.

مقارنات فلسفية: ديكارت وكونت ودريدا

إذا كان رينيه ديكارت قد ابتدع منهج "الشك المنهجي" للوصول إلى يقين عقلي، فإن باشلار ينتقل خطوة أبعد: فهو لا يشك فحسب، بل يرفض كل ما لا يمكن إخضاعه للبرهنة العلمية الدقيقة. بينما أراد ديكارت إثبات الحقيقة، أراد باشلار تفكيك الحقيقة الثابتة كلّما أصبحت عقبة في وجه المعرفة الجديدة.

أما أوغست كونت، فقد قدّم رؤية تطورية للمعرفة تقوم على الانتقال التدريجي من المرحلة اللاهوتية إلى الوضعية. في المقابل، يرفض باشلار هذا النمو الخطّي، ويرى أن العلم يقفز قفزات مفاجئة عبر انقطاعات جذرية مع الماضي.

وفي زمن لاحق، سيأتي جاك دريدا بمنهج "التفكيك"، الذي وإن اختلف في مرجعيته، إلا أنه يلتقي مع باشلار في رفض البنى الجامدة وفضح تناقضاتها الداخلية. لكن دريدا يفكك النصوص، أما باشلار فيفكك مفاهيم العلم ذاته.

باشلار ومجتمع اليوم: تطبيقات معاصرة

ما يجعل فلسفة باشلار حيّة وضرورية، هو قابليتها للتطبيق على قضايا معرفية واجتماعية نعيشها اليوم:

1.  نقد الخطاب الديني الجامد: لا تزال الكثير من المجتمعات رهينة لتأويلات دينية تقليدية تُقدّم بوصفها حقائق مطلقة. فلسفة الرفض تدعونا إلى تجاوز هذه التأويلات، دون المساس بجوهر الإيمان، من أجل تأسيس فهم ديني أكثر عقلانية وانفتاحاً.

2.  إصلاح التعليم: لا يمكن لأي نهضة أن تقوم على مناهج تلقينية عقيمة. باشلار يدعو إلى تعليم يعلّم الطلاب كيف يفكرون لا ماذا يفكرون، كيف يسألون لا كيف يحفظون. فالمعرفة لا تُلقّن، بل تُبنى على نقد المألوف ورفض الجاهز.

3.  التحقق من المعرفة الرقمية: في زمن الذكاء الاصطناعي وتضخّم المعلومات، تبرز أوهام جديدة تحت مسميات "المعرفة السريعة". هنا يتوجب علينا إعادة قراءة كل ما نستهلكه معرفياً، بروح باشلارية ناقدة، ترفض ما لا يقوم على أساس عقلي أو علمي واضح.

4.  الهوية والانتماء في زمن العولمة: يعيش الإنسان تمزقاً بين جذوره الثقافية ومتطلبات الحداثة. فلسفة باشلار تقترح أن تكون الهوية مشروعاً مفتوحاً، قابلاً لإعادة البناء والنقد، لا قفصاً مغلقاً. فـالانتماء لا ينبغي أن يكون رفضاً للآخر، بل انفتاحاً عليه من موقع نقدي حر. 

خاتمة: الرفض كقيمة فلسفية خلاقة

ليست فلسفة الرفض عند غاستون باشلار مجرّد موقف سلبي أو نزعة عدمية، بل هي مشروع تحرري شامل، يسعى إلى كسر قيود التقليد والانغلاق، وفتح أبواب التفكير الحر والمعرفة العقلانية. ومن هنا، فإن دعوة باشلار لا تزال تمثل صرخة في وجه الجمود، ونوراً في درب الباحثين عن معرفة تحترم العقل وتحرّر الإنسان من أسر الأفكار الجاهزة.

هوامش للنشر (اختيارية):
نُشرت أعمال باشلار الأساسية مثل "تكوين العقل العلمي" و*"الحدس والعقل"* في سياق نقده لبنية الفكر العلمي.
ظهرت فلسفة القطيعة الأبستمولوجيا لاحقاً في أعمال فلاسفة مثل ألتوسير، ولكن بداياتها تعود إلى باشلار.

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية