قصة قصيرة حين سقطت العصافير

 

قصة قصيرة

حين سقطت العصافير

بقلم عدنان مهدي الطائي

في مثل هذا التاريخ منذ زمن ليس بالبعيد كان لدينا قطعة ارض كبيرة جدا تسمى وطن.. نلعب عليها ونلهو ، وأمي تخبز لنا الخبز في الركن البعيد ، وأبي اعتاد يذهب إلى الحقل كل صباح لا يعود إلا عند الغروب ننتظره على حافة جدول القرية الهادئ  لا نسمع منه ألا خريره وزقزقات العصافير العابثات بأغصان شجرة القرية الكبيرة ، عمرها مئات السنين تتحدى الريح والأعاصير، وهي تودع النهار لتستريح من عناء التنقل والبحث عن لقمة العيش وحال وصول أبي هدأت العصافير وسكنت الأصوات وقرص الشمس يتهادى ويختفي رويدا رويدا بين أشجار الحقول تحتضن قريتنا ، وريش العصافير المتناثرة مع أوراق الشجر اليابسة المختلطة برطوبة الأرض ، شكلت لوحة سريالية تجاوزت الواقع ،  وصوت أبي الجهوري ابتلع خرير الماء وهو يسلم علينا :

مساؤكم خيرا أولادي.. تنتظرون قدومي.. ما أجملكم أحبتي.. التعب زال عني واحتضن أخي الصغير بحنان ورقة، وأمي عند الباب تطل بوجهها النوراني رسمت ابتسامة خفية خجلة كابتسامة الموناليزا، تنم عن طيبة قلبها وملامحها تدل على البساطة والعفوية.. دخلنا سوية وجلسنا نتناول العشاء وأبي يسامرنا بأحاديث الفلاحين، ونكهة الزروع ملئت البيت واختلطت مع رائحة طعام أمي الزكي وشربنا الشاي مع النعناع، والقمر ينشر ضياءه من خلال شباك غرفة الجلوس.. فجأة تكدر الجو خارجا واسودت الدنيا بأعيننا وزلزلت الأرض زلزالها وتمايلت أضلاع دارنا الأربعة وتساقطت حمم عليه اختلط مع ضجيج صياحنا: ماذا حصل؟ هل نحن في يوم من سقر؟

هدئ الجو من الأصوات لحظات كأننا في مقبرة عند منتصف الليل أو كأن تلك العصافير النائمة وقفت على رؤوسنا والدخان يلف المكان ورائحة البارود تزكم أنوفنا ممزوجة برائحة شواء لحوم البشر.. انسحب أبي بهدوء كاللص إلى شباك الغرفة يستطلع ما حدث.. وقف متسمرا محدقا فينا بألم ممزوج بالخوف وهو يهذي: أشلاء تحترق رؤوس مقطعة والعصافير سقطت فوقهم يا للهول ماذا حدث.. وخرجنا مسرعين إلى الخارج حتى بانت صورة الحادث انفجار مزدوج وشجرة القرية العتيدة تحمل أحلامنا وقصصنا تناثرت قطعا مرتبكة رسمت مع الأشلاء والرؤوس المتقطعة لوحة جهنم كما وصفها الله في كتبه المقدسة.أولئك قتلة الحضارة رافعين لواء الدين.. يصرخ أبي ويطلق ضحكات هستيرية.. لا تقتلوا النفس الذي حرمها الله.. ههههه.. يسمونها (نفس) أولاد الكلب سواء كانت مؤمنة أو كافرة.. هي روح، ثم استرسل بضحكاته الخشنة كخشونة يديه الفلاحية، وهو يختفي ونحن معه من المشهد.

عمت الفوضى المكان وتزايد الهرج والمرج واحتد النقاش كأننا في ندوة حوارية اعتدنا سماعها من على شاشات الفضائيات.. حوار الطرشان لا جدوى منه.. وانفض مهرجان الموت واستسلمنا جميعا للنوم كأن شيء لم يكن.. وأخيرا سُجل الحادث ضد مجهول وأُسدل الستار.. هذا هو وطني كل يوم يُسدل الستار والمسرحية لا تنتهي.

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية