رسالة من تحت الاوهام) قصة قصيرة)

 

رسالة من تحت الاوهام) قصة قصيرة)

 بقلم عدنان الطائي 

بغداد، ربيع عام 2005

🌿 مقدمة القصة

في عالم يضيق شيئًا فشيئًا على الأحلام، يختار بعضنا الهروب نحو الخيال لا حبًا فيه، بل خلاصًا من واقع لا يحتمل. هذه قصة رجلٍ عاش حبًا لا يُدرَك، ولا يُنسى… ظلّ يحمله بين ضلوعه مثل نشيد قديم، نُسي لحنه وبقي صداه. لم يكن يبحث عن امرأة بقدر ما كان يبحث عن جزءٍ من ذاته فُقد عند أول نظرة، وعاد إليه أخيرًا لا عبر لقاء، بل عبر رسالة خرجت من تحت ركام الوهم، لتُوقظه أو لتغرقه فيه أكثر.

    لم يكن يتصور أن الحب قد يزهر على أطراف الذاكرة، لكن ذلك ما حدث له ذات ظهيرة خريفية. التقيا مصادفةً في معرض فني صغير في "قشلة بغداد"، تقف أمام لوحةٍ تجسد شاطئًا من جزر الكناري، بينما هو يتأمل التفاصيل بنصف قلب غائب.

هل تعرف هذه الجزيرة؟  سألته بصوت ناعم.

أعرفها من حلم… حلم غامض، تكرر كثيرًا.

ضحكت، وكان لصوتها رنين يوقظ فيه طفولة منسية. لم يكن حديثهما طويلاً، لكنه كان كافيًا ليولد فيه شعور مبهم، امتد كشرنقة ناعمة حول قلبه. تبادلا الأرقام، وتوالت اللقاءات: في مقهى الشابندر، وحدائق أبو نؤاس، وبين رفوف مكتبة المتنبي القديمة. اسمها ليلى. وكانت تمشي على الحافة بين الواقع والخيال. كانت تؤمن أن الأشياء الجميلة لا تكتمل، وأن الحب الحقيقي يعيش في اللحظة، لا في المصير.

في أحد أيام الربيع، جلسا على ضفاف دجلة، تحت نخلة باسقة. كانت تحكي له عن شغفها بالرحيل، بالابتعاد، بركوب المجهول. وكان يصغي وهو يشعر أنه يغرق في صدى صوتها أكثر من كلماتها.

أحبكِ…” قالها فجأة، دون ترتيب.

سكتت. ثم ابتسمت، وقالت همسًا: “لا تطلق الأحبّة سراح الكلمات قبل أوانها.”

في تلك الليلة، حلم بها تطير فوق تلةٍ خضراء في شمال العراق، كشبح آشوري ناعم، تلوّح له بيدين ناعمتين، بينما هو يناديها وسط صمت كثيف لا يسمعه فيه أحد. استيقظ ويده على قلبه، وجسده مبلل من عرقٍ بارد.

مرت أيام، ثم أسابيع، ولم تجبه على اتصالاته. اختفت. كأنها لم تكن. بقي صدى ضحكتها يسكن أذنه، وصورتها في المعرض تعلق في خياله كما يعلق نجم بعيد في سماء مغلقة. حاول أن يكتب عنها، أن يرسمها، أن ينساها. عبثًا. كل ما فعله لم يزلها، بل عمّق حضورها. بعد شهرين، سافر إلى أربيل، باحثًا عن عزلة في سفوح الجبال، علّه يتخلص من طيفها. وهناك، في لحظة من وهم الأمل، رآها. أو هكذا ظن. كانت واقفة على التلة، ترتدي ذات المعطف الرمادي، وتلوّح له كأن شيئًا لم يكن. جرى نحوها، لكنه لم يجد سوى الهواء البارد. جسدها تبخر كالدخان. سقط أرضًا، وبكى، لأول مرة منذ سنوات.

عاد إلى غرفته تلك الليلة، مكسورًا، وجلس يكتب:

"أحببتكِ خلال لحظة جنون... لكنها كانت لحظة بعمق فقاعة، تلاشت بلا حسبان. وسأحتاج أعوامًا للنسيان... بل ربما عمراً. لأنكِ... كنتِ أوهامي التي تمنيت لو تحققت، وواقعي الذي تمنيت لو كان وهماً."

مرت سنوات، لكنه لم ينسها. كل شيء فيه بقي معلقًا بذلك الربيع. ظن أن الأمر انتهى، وأنه سيبقى وحده يحمل حبًا بلا ملامح. وفي صباح شتوي، حين كان يفرغ صندوق البريد المهمل منذ أيام، وجد مظروفًا صغيرًا، بلا طابع، بلا عنوان واضح. خط يد ناعم كتب اسمه فقط. فتح الرسالة بيدين مرتجفتين. ليلى، تقول: لم أرحل عنكَ، بل رحلتُ عن نفسي. كنتَ الحلم الوحيد الذي تمنيتُ أن أعيشه، لكني كنتُ أضعف من الواقع، ومنك. في لحظةٍ ما، خفت أن أظل امرأة تسكن خيالك فقط، أن أبقى مثالية كما رأيتني. وأنا… لست كذلك. رحلتُ كي لا أُفسد الحلم. كنتَ شاعرًا، وأنا امرأة تتعثر كلما حاولت التحليق. سامحني إن اختفيت، إن صمتُّ حين قلتَ "أحبك". كنت أحبك بطريقتي، لكني لم أملك الشجاعة أن أقولها بصوت مسموع. إن مرّت السنون، ونسيتني… فلا تحزن. وإن لم تنسَ، فلتبتسم كلما خطرتُ في بالك، كما كنت تبتسم حين نتمشى في أبو نؤاس. أنا الآن في مكان لا يصله بريد، ولا حب، لكني تركت لك هذا الحرف الأخير… ليبقى الوهم حقيقياً، والحب صافياً كما كان. إلى اللقاء، ليلى

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية