هكذا تكلم زردشت العرب محمد الماغوط
هكذا تكلم زردشت العرب محمد الماغوط
بقلم عدنان الطائي
" لا يهزني نصر،
ولا تذلني هزيمة. ولا يربكني احتلال، ولا يسعدني استقلال. لا تشغلني مفاوضات، ولا
يؤرقني حصار، ولا يشدني مسلسل، ولا تمتعني رواية، ولا تضحكني مسرحية، ولا تطربني
أغنية ولا يزعجني مواء أو عواء. لا يعنيني تراث، أو حضارة، أو موقع استراتيجي، أو
ثروات طبيعية، أو نهضة عمرانية، أو فنية، ولا أوابد أثرية، ولا ملاحم عربية.
لا أتذمر من شيء، ولا أطمح لشيء!
أي طعام آكل
وأي لباس أرتدي
وأي حذاء أنتعل
ولأي طائفة أنتمي
بأية شروط أقبل
على أية ورقة أوقع
وحيث يدركني النعاس أنام كالحيوان!!
لا أخجل من شيء، لا أحن إلى شيء، ولا أبالي
بشيء.
شكراً للثورات العربية المباركة!
الثورات العربية: لا شكر على واجب!!
ما قاله الشاعر السوري
محمد الماغوط في هذا النص، ليس هروباً من الواقع، بل صرخة مؤلمة من داخله تجاه
الواقع العربي المرير. إنه لا يتحدث عن نفسه فقط، بل عن الإنسان العربي الذي طحنته
الهزائم، وشلّته الانكسارات، حتى أصبح لا يشعر بشيء، لا فرحاً ولا حزناً، لا
انتماء ولا حلم.
هذا النص هو تجسيد لحالة "اللامبالاة
القاتلة" التي يصل إليها الإنسان بعد أن يُخذل مراراً، سواء من الأنظمة، أو
الثورات، أو من وعود الاستقلال والتنمية، وحتى من الثقافة والفن التي كانت ذات يوم
ملاذاً. هو لا ينتقد الثورات بحد ذاتها، بل يسخر من نتائجها الكارثية ومن تكرار
خيباتها.
رأيي:
كلمات الماغوط ليست
غامضة، بل شديدة الصدق والألم، وتعبّر عن إحباط وجودي جماعي أكثر من كونه فردياً.
هو يقول بطريقة ساخرة: "لقد جُرّبت كل السبل، فماذا بقي؟ لقد سُرق الأمل حتى
من الأحلام."
باختصار، هو لا يهرب من
المنطق، بل يسخر من واقع بلا منطق. هو لا يهرب من الواقع، بل يكشف لنا عورته
وقسوته بدون تجميل، وبدون أوهام. الماغوط في هذا النص، يمارس أعلى درجات النقد
السياسي والاجتماعي، لكن بمرآة مكسورة تعكس عبثية الواقع العربي. كنت أقصد أن
الشاعر يستخدم أسلوباً خاصاً جداً في التعبير: ليس الخطابة المباشرة أو الشعارات،
بل السخرية السوداء، واللامبالاة المصطنعة، والمفارقات، ليُظهر لنا كم أصبح
الإنسان العربي ممزقاً ومشلول الإرادة من شدة ما مرّ به من:
هزائم متكررة (عسكرية وسياسية وفكرية)
ثورات لم تثمر، بل غالباً تحولت إلى فوضى أو
خيبة
استقلال شكلي بدون كرامة
فن وثقافة تحولت أحياناً إلى أداة تزييف لا
وعي
فالمرآة المكسورة تعني أن الصورة التي ينقلها
لنا مشوّهة، لكنها ليست كاذبة، بل هي حقيقية بقدر ما هي جارحة وموجعة. الماغوط لا
يعرض لنا الواقع كما نحب أن نراه، بل كما هو: مجرّداً من الأمل، من المعنى، من
التجميل. وكأنه يقول لنا: هذا ما أوصلتمونا إليه. صرنا شعباً لا يحلم، لا يغضب، لا
يفرح، لا يرفض، فقط يأكل وينام، ويوقّع على كل شيء دون أن يسأل لماذا. جميل ان يدفعنا الماغوط ان ننظر في النص ضمن سياقين: تجربته الشخصية، والتحولات العربية الأوسع. بذلك تتضح الرؤية بشكل أعمق.
أولاً: سياق تجربة الشاعر محمد الماغوط
الشخصية
الماغوط (1934–2006) لم
يكن فقط شاعراً، بل كان شاهداً على أزمنة مليئة بالقمع والخذلان السياسي. نشأ في
بيئة فقيرة، وسُجن في شبابه بتهمة الانتماء لحزب سياسي يساري، وذاق مرارة السلطة
القمعية. لكنه تخلّى لاحقاً عن الانتماء الحزبي، ليختار سلاحاً آخر: الكلمة
الساخرة والجارحة.
أبرز سمات تجربته: عاش تجربة الخوف، والخذلان
من الحكومات والرفاق معاً. لم يؤمن بالشعارات الفارغة، ورفض التزييف الإعلامي. شعر
بأن المواطن العربي أصبح مسحوقاً بين سلطة دكتاتورية ومعارضة متاجرة بالأحلام. في
هذا النص، يتكلم بلسان من فقد ثقته بكل شيء: بالنصر، بالاستقلال، بالتراث،
بالسياسة، وحتى بالفن والثقافة. وهذا ليس انطواء أو سلبية، بل هو صرخة احتجاج غير
تقليدية.
ثانياً: سياق التحولات العربية الكبرى
هذا النص يحمل في طياته إرهاصات ما بعد
"النكسة" (1967)، وما تلاها من أحداث: سقوط حلم القومية العربية.. فشل
المشاريع التنموية والتحررية.. تسلّط الأنظمة العسكرية والدكتاتوريات.. خيبة الأمل
من الثورات أو الانقلابات التي لم تحقّق العدالة ولا الكرامة.. شيوع ثقافة
"اللامعنى" واللامبالاة كمحصّلة لتآكل الثقة. إذن ما يقصده الماغوط: ليس هجاء الذات، بل رثاء أمّة مات فيها الحلم. لم
يعد المواطن العربي يشعر أن هناك فرقاً بين احتلال أو استقلال، بين هزيمة أو نصر،
لأن النتيجة واحدة: الذل، الفقر، الغربة داخل الوطن.
وأخيرا ان الماغوط لا
يدعو إلى اللامبالاة، بل يصفها كمرض جماعي أصاب الأمة.. هو ليس ناقداً عابراً، بل
شاهد على احتضار الحلم العربي.. كلماته تنتمي إلى مدرسة "السخرية
الجادة"، حيث اللعب باللغة يخفي ألماً وجودياً عميقاً. كما يقول:
"لا يهزني نصر، ولا تذلني هزيمة..."
يفتتح الشاعر بنفي
مزدوج لكل ما يشكّل تقليدياً جوهر الشعور السياسي والوطني. النصر والهزيمة صارا
سواء. هذا التبلّد ليس حياداً، بل نتيجة تكرار الخذلان حدّ التخمة.
"ولا يربكني احتلال، ولا يسعدني
استقلال..."
بين الاحتلال
والاستقلال، يفترض أن يكون هناك اختلاف في الوجدان الشعبي. ولكن، حين يصير
الاستقلال شكلياً، بلا كرامة أو حرية، يصبح الاحتلال مجرد تبديل للزي الرسمي.
"لا يشغلني تراث، أو حضارة، أو موقع
استراتيجي..."
ينسف الماغوط كل
المسلّمات القومية: التراث، الموقع، الثروات... كل ما يفاخر به السياسيون. لماذا؟
لأن هذه "الكنوز" لم تثمر للناس شيئاً سوى الكلام.
"لا أتذمر من شيء، ولا أطمح
لشيء..."
هنا تظهر اللامبالاة لا
كصفة نفسية، بل كموقف فلسفي. الإنسان الذي فقد القدرة على الحلم، على الطموح، صار
كائناً بيولوجياً فقط: يأكل، ينام، ويوقّع دون فهم أو إرادة. هذا تصوير مرعب لحالة
اللاوعي الجماعي
وجاءت الصفعة القاسية
"شكراً للثورات العربية المباركة!"
الثورات العربية تُجيب: لا شكر على واجب!!"
هذه الجملة هي اللكمة
الساخرة في نهاية النص. يلمّح الشاعر إلى أن ما جرى باسم "الثورة" لم
يكن خلاصاً، بل مجرّد إعادة إنتاج للكارثة بوجه مختلف. كأن التاريخ يسخر منا،
ويعيد نفسه بلا عبرة.
تعليقات
إرسال تعليق