مسرحية الخروج عن العبثية.. "مرافعة المعنى: ما بعد العبث"

 

مسرحية الخروج عن العبثية..

"مرافعة المعنى: ما بعد العبث"

بقلم عدنان الطائي

مقدمة

في عالم متشابك بين الفوضى والبحث عن المعنى، تتجلى الفلسفة كمرآة تعكس صورنا المتعددة، مشاعرنا المتناقضة، وأفكارنا المتداخلة. هذه المسرحية ليست مجرد حوار بين شخصيات، بل هي رحلة تأملية في عمق النفس البشرية، حيث تتصارع الرؤى الفلسفية مع الحقائق الواقعية، وتتلاقى الأسئلة الكبرى مع إشكاليات الحياة اليومية.

    (مرافعة المعنى: ما بعد العبث) تدعونا لنقف أمام أنفسنا بلا أقنعة، نواجه تناقضاتنا ونبحث عن التوازن بين المثالية والبرغماتية، بين الحلم والواقع. في زمن تتقاذفه تيارات العدمية والعبث، تطرح المسرحية سؤالاً هاماً: هل يمكن أن نجد في التعايش مع هذه المتناقضات طريقاً نحو فهم أعمق وإنسانية أكثر رحابة؟ من خلال الحوار العميق بين أربعة من المفكرين المختلفين في مجالاتهم، تستكشف المسرحية أبعاد الوجود، العدالة، الفن، والإيمان، وتحاول أن ترسم لنا خارطة طريق تأخذنا من شظايا اليأس إلى بوادر الأمل، من الصراعات الفكرية إلى لحظات الانسجام الإنساني.. هي دعوة لأن نكون بشراً، بكل تعقيدنا، وبكل جمالنا، وأن نؤمن أن عبور المرآة ليس هروباً من الواقع، بل استنارة تجعلنا نعيد اكتشافه بأعين جديدة.

   فالتوصيف الأدق ان هذه المسرحية ليست عبثية تمامًا، ولكنها تبدأ من العبث وتذهب أبعد منه نحو الوعي، النقد، والمساءلة الأخلاقية. يمكن القول إنها تنتمي إلى مسرح ما بعد العبث (Post-Absurdism) حيث يُعاد طرح الأسئلة الوجودية، ولكن في سياق واقعي/سياسي/أخلاقي. أو مسرح المقاومة الفكرية: حيث تُستخدم أدوات الفلسفة والتفكيك ضد التبرير والسكوت. اذن هي ليست طرحًا عبثيًا خالصًا كما طرحها البير كامو في فلسفة العبث((Absurdism) الإنسان يبحث عن معنى في عالم لا معنى له، بل هي ردّ فعل فلسفي ناقد على واقع عبثي، يدعو لإعادة توازن بين الحقيقة، الفكر، والضمير. تقف هذه المسرحية:

ما يتقاطع مع العبث:

  • هناك شك، قلق، وحيرة بين الشخصيات.
  • يوسف مثلًا يُمثّل الصراع الوجودي: "لماذا ندرس الحقيقة إذا كنا لا نعيشها؟".
  • الأساتذة أنفسهم يعانون من انقسام داخلي بين ما يُعلَن وما يُعتقَد.

ما يتجاوز العبث:

  • هناك رغبة صادقة في الفعل والتأثير، وليس الاستسلام.
  • مونور، ليلى، نادية، يوسف… كلهم يحاولون فهم الواقع وتحليله، وليس فقط الاكتفاء بالسخرية منه.
  • هناك نقد اجتماعي وفكري مباشر (للأنظمة، الأكاديميا، النخبة)، وهذا أقرب لمسرح الوعي النقدي منه للعبث الخالص.
  • يوسف، رغم شكّه، يصرّح بوضوح:

"ربما لا توجد حقيقة… لكن هذا لا يعني أن الأكاذيب يجب أن تحكم."

 

المشهد الأول: الهامش الذي نعيش في

 في هذا المشهد، نُقدّم شخصية تحاول أن توازن بين المثالية الفكرية والبراغماتية الواقعية، دون أن تسقط في السخرية أو الإحباط:

 الشخصيات:

ليلى أستاذة فلسفة سياسية، في منتصف الأربعينات. واقعية ذات طموح أخلاقي.

  • سليم محامٍ شاب، يشتغل في قضايا اللجوء والمهاجرين.
  • نادية باحثة في علم الاجتماع، تميل إلى النقد المثالي الغاضب.

المكان: مقهى جامعي – ثلاثتهم يجلسون حول طاولة.

نادية:
- كل هذا هراء! أن نكتب ونحلّل وننشر، والظلم في الخارج يتمدد كضباب كثيف… الناس تموت ونحن نملأ الأوراق بالحبر!

سليم:
- لكننا نحاول يا نادية، كل بطريقته… أنا لا أدّعي أن القانون نزيه، لكنه على الأقل يُحدث فرقًا لصاحب الملف رقم ٣٢٤ الذي كاد يُرحّل.

ليلى:) تنظر إلى فنجانها (

- نادية… سليم لا يدافع عن القانون كقيمة مطلقة، بل يستعمله كأداة... وأداتكِ أنتِ هي النقد. أما أنا فأبحث عن النقطة التي يمكن أن نُمسك فيها الفكر، دون أن نفقد اليد التي تمسك الحياة.

نادية:
- الفكر يجب أن يكون حادًّا، صادقًا، لا مساومة فيه!

ليلى:
- وما فائدة السيف إذا لم تجد من تُقنعه بأن يضع درعه؟ نحن لا نعيش في "المثال"، بل في "الهامش"... نحن الهامش الذي يقاوم أن يُمحى، لا المركز الذي يصدر الأحكام. 

سليم (يبتسم)

 - قال لي أحد اللاجئين ذات مرة: "أنت المحامي الوحيد اللي سألني إذا كنت أحلم"... ضحكت وقتها، ثم فهمت... ليس واجبي فقط أن أُخرجهم من الورقة، بل أن أُعيدهم إلى الحلم.

ليلى:
- وهذا ما لا تفهمه الأنظمة... أن الحلم نفسه يصبح فعلًا حين لا نكتبه على جدار، بل نحمله إلى داخل المؤسسات.

نادية:) تهدأ قليلاً (
- أظنني... متعبة من الصراخ دون صدى.

ليلى:
- لا تصرخي للصدى، بل للحياة. الصدى يعيد الصوت كما هو... الحياة فقط من تُعيده بشكلٍ آخر.

رسالة المشهد

  • المثقف الحقيقي ليس من يصرخ فقط، بل من يحفر طريقًا صغيرًا في صخرة الواقع.
  • المزج بين الوعي بالمثالية والتعامل مع الواقع هو ما يصنع التغيير، ولو كان تدريجيًا.
  • لا العجز ولا الغضب يصنعان فرقًا وحدهما، لكن التواضع أمام الواقع دون الخضوع له هو الطريق الثالث.

 

  •  

المشهد الثاني: "الحقيقة ليست صخرة"

في هذا المشهد استكمالا للخط الذي بدأناه في المشهد الأول، حيث تحاول "ليلى" أن تمسك بالخيط الرفيع بين الفكر والممارسة، بين الحلم والواقع. في هذا المشهد، نُصعّد الحوار، ونُعقّد التحديات الفكرية، وندفع الشخصيات نحو مواقف أكثر وضوحًا.

المكان: مكتب قديم في الجامعة، أوراق مبعثرة، سبورة كُتب عليها: "هل الحقيقة مطلقة؟"
الزمن: مساء هادئ، قبيل انتهاء اليوم الدراسي.

الشخصيات:

  • ليلى أستاذة فلسفة سياسية، تجلس خلف مكتبها، تراجع مقالة أحد الطلبة.
  • سليم يدخل وهو يحمل قهوة لها، متردد في الحديث.
  • نادية تدخل فجأة، متوترة، تحمل منشورًا ورقيًا.

نادية:
(
تقف وسط الغرفة، تلوّح بمنشور)

- أوقفوا الندوة القادمة! المدير رفض الموافقة على حلقة النقاش حول "العدالة خارج الدولة". قال: "تحريض فكري غير مسؤول".

ليلى: (تتنهد)
- إذن ما زالت الحقيقة تُفزع من يتكئون على السلطة.

سليم: (يضع القهوة بهدوء)
- هل توقعتِ غير ذلك؟ نحن نُدرّس ما لا يُحب أن يُطبّق… الأفكار التي تصعد فوق جدران الجامعة تُقطع رؤوسها.

نادية:
(
تنفجر)
- وأنتما ترضيان بهذا؟ لماذا لا نحتج؟ نُعلق منشورات؟ نكتب بياناً؟!

ليلى:
(
بهدوء عميق)
- لا أريد أن أكون ضحية جديدة في حفلة الأبطال الخاسرين.

نادية: (بغضب)
- أنتِ تخذلين الفكر!

ليلى: (تنهض، تقف في مواجهة نادية)

- بل أحميه. الفكر ليس صخرة نضرب بها رؤوس الناس. الفكر نهر… يجرف، يروي، يغيّر شكل الأرض... ببطء، لكن بثبات.

 

سليم:

(يقترب)
- نادية… ألا ترين؟ فزتِ… حتى برفضهم. مجرد محاولة طرح السؤال "ما العدالة خارج الدولة؟" جعلهم يرتجفون… نحن لم نخسر، بل زرعنا خوفًا من سؤال بسيط.

نادية:
(
تصمت، تنظر إلى السبورة)
"-
هل الحقيقة مطلقة؟"
(
بهمس)
- ربما الحقيقة ليست ما نقوله… بل ما نخاف أن نقوله.

ليلى:
- أو ما لا نملك اللغة بعدُ لنقوله.

سليم: (بابتسامة شاردة)
- ليست الحقيقة مطلقة… لكنها تملك إصرار المطر.

نادية:
- إذن نستمر لكن على طريقتنا. لا استشهاد، لا بطولات… بل مقاومة ناعمة، عنيدة.

ليلى:
(
تعود إلى مكتبها، تكتب شيئاً في مفكرتها، وتقرأ)
"-
لن نصرخ في وجه العالم سنزرع في قلبه بذور التغيير وسنصبر".

(تُطفأ الإضاءة تدريجيًا على الثلاثة وهم يتابعون النقاش بهدوء، خلف باب مغلق على صمت الخارج.)

مغزى المشهد الثاني:

  • السلطة تخاف الفكر لأنه يُخرج الناس من الطاعة إلى التساؤل.
  • المقاومة لا تأتي دائمًا بالصراخ، بل أحيانًا بالصبر، بالمثابرة، وبتغيير طريقة طرح الأسئلة.
  • المثقف ليس متمردًا فقط، بل مهندسًا صبورًا لإعادة تشكيل البنية الفكرية في الواقع.

 

المشهد الثالث: مَن يربّي الحقيقة؟"

يتحدث عن شخصية جديدة، طالب شاب يمثّل الجيل الجديد – جيل الإنترنت، الإرباك، الشك، وفقدان الثقة بالمثقف التقليدي. يطرح هذا الطالب أسئلة وجودية ويُربك الأساتذة أنفسهم، مما يجعل المسرحية أكثر عمقًا واتساعًا.

المكان: قاعة محاضرات فارغة بعد نهاية الدوام، النور خافت، الكراسي غير مرتبة، سبورة مكتوب عليها اقتباس لفوكو: "الحقيقة ليست خارج السلطة، ولا دونها." 

الشخصيات:

  • ليلى أستاذة الفلسفة السياسية، تهمّ بجمع أوراقها.
  • نادية الباحثة الغاضبة، تجلس على طرف المنصة تفكر.
  • سليم المحامي الواقعي، يقف قرب النافذة.
  • يوسف طالب في نهاية العشرينات، ذكي، ساخر، لا يثق بالأطر الأكاديمية.

(يوسف يدخل القاعة ببطء، يحمل دفتراً، يتطلع إليهم باستغراب)

يوسف:
- كل هذا الحماس... لماذا؟! أنتم تناقشون "الحقيقة"، وكأنها شيء نُمسكه، ندرّسه، نُقنِع به... منذ متى والحقيقة تهم الناس؟

نادية:
(
تنظر إليه بحدّة)
- ومنذ متى أصبح الشك بديلاً عن الفعل؟

يوسف: (بسخرية ناعمة)
- منذ أن صار كل شيء مسرحيًا… حتى الاحتجاجات.

ليلى:
- ما الذي تريد قوله، يوسف؟

يوسف:
- أريد أن أفهم… لماذا تدرّسوننا ما تعرفون أنه لا يُطبق؟ أنتم تصفون عالمًا لا نراه… وحين نحاول أن نلمسه، نقع. أنتم كأنكم تقولون: "اصنعوا عدالة لا توجد، وعيشوا حُرّية مُراقبة".

سليم:
- لأن البديل، يا يوسف، أن نصمت. وأن نُسلم عقولنا، ونصبح آلات.

يوسف: (يتقدم نحو السبورة)

- ألم تصبحوا أنتم الآلات؟ أستاذة ليلى، متى آخر مرة كتبتم نصاً من دون أن تفكروا في قبول المجلة؟ أستاذة نادية، هل تكتبين للناس… أم للجدران التي تُسمّى مؤسسات؟ وسيد سليم، من تدافع عنه أكثر… ضميرك، أم قانونك؟

(صمت)

نادية:
- أنت قاسٍ يا يوسف لكن ربما صادق.

ليلى: (تبتسم بتعب)
- نحن لا نُقدّم أجوبة، يوسف… نحن نمنحك أدوات لتسأل بشكل أعمق. وإذا كنت لا ترى الحقيقة… فاسأل نفسك: هل غابت الحقيقة؟أم أن عينيك لا تزالان خائفتين؟

يوسف: (يهمس)
- أنا لا أخاف… أنا فقط لا أصدقكم بعد.

سليم:
- هذا جيد الشخص الذي لا يصدقنا، هو الأمل الوحيد في أن يتجاوزنا.

يوسف:
(
ينظر نحو السبورة، ويمسح الاقتباس المكتوب)
- ربما لا توجد حقيقة لكن هذا لا يعني أن الأكاذيب يجب أن تحكم.

ليلى:
(
تضحك بهدوء)
- لقد بدأت تفهم الفلسفة، يا يوسف.

(ينطفئ الضوء ببطء، مع موسيقى هادئة، وثلاثتهم يتركون يوسف وحده، يكتب جملة على السبورة بخط كبير:
"
الحقيقة يتيمة... ونحن أيتامها.")

رسالة المشهد الثالث:

  • الجيل الجديد يُعيد صياغة الأسئلة، ويُربك المسلمات، لكنه ليس عدميًا.
  • الشك ليس خيانة، بل خطوة نحو وعي جديد.
  • لا أحد يملك الحقيقة، لكن كل واحد مسؤول عن عدم تسليمها للأكاذيب.

 

  •  

المشهد الرابع – "امتحان القلق العلني"

يتحدث المشهد عن مزاوجة المثالية بالواقعية أو الرومانسية بالواقعية ليست فقط ناضجة، بل أيضًا ضرورة في زمن اختلط فيه الوعي بالضجيج. هذا المزاوجة هو ما يصنع فنًا حيًا، صادقًا، يمكنه أن يلمس وجدان الناس ويحفّزهم للتفكير دون أن يغرقهم في اليأس أو الوهم.

المكان: قاعة كبيرة في الجامعة، أُعدت لمحاضرة مفتوحة يديرها "رئيس الجامعة" بعنوان:
"
مستقبل الفكر الأكاديمي في زمن الفوضى الرقمية"

الشخصيات الجديدة:

  • رئيس الجامعة رجل دبلوماسي، يحسن الكلام الرسمي، يحاول إرضاء الجميع.
  • مساعدته تُعلن وتدير الجلسة، دقيقة وصارمة.
  • يوسف الطالب، يشارك من الجمهور.
  • ليلى، نادية، سليم، مونور يجلسون كضيوف رسميين على المنصة.

(تبدأ الجلسة، مساعدته تعلن أسماء المشاركين... الجميع صامت، جمهور طلابي متوسط الحضور.)

رئيس الجامعة (بابتسامة دافئة):

- أصدقائي، نحن هنا لنعيد الثقة بين الجامعة والشارع، بين الفلسفة والواقع، بين الإنسان والحقيقة. ما نواجهه ليس أزمة علم، بل أزمة ضمير.

(تصفيق خفيف. يوسف يرفع يده فجأة.)

يوسف:
- سيدي الرئيس، هل يمكنني أن أطرح سؤالاً قبل أن نغرق في الشعارات؟

رئيس الجامعة (يضحك بلطافة):
- نحن هنا من أجل الأسئلة يا بني، تفضل.

يوسف (واقفًا، صوته واضح):

- ما معنى أن نُدرّس "مستقبل الفكر الأكاديمي"، بينما لا يُسمح لأحد أن ينتقد المؤسسة؟ لماذا نحتفل بالحوار، ونحن نُخضع الأساتذة للعقوبات إن خالفوا الخطاب العام؟ لماذا نُدرّس سقراط، بينما نُعاقب كل من "يسأل أكثر من اللازم"؟

(همهمات بين الحضور. نادية تبتسم بخبث، سليم يهمس لليلى: "سيُغضبهم الآن")

- رئيس الجامعة (يُعدل ربطة عنقه، يحاول التماسك): يا بني، النقد مرحب به، لكن ضمن الحدود الأكاديمية. لا يمكننا تحويل الجامعة إلى ساحة فوضى سياسية أو منصة رفض دائم.

يوسف:
- لكن الحياة فوضى يا سيدي، والناس في الخارج لا يتحدثون بلغة الأكاديميا، بل بلغة الجوع، الخوف، والخذلان. إذا لم تعكس الجامعة صدى الناس، لماذا ندعوها "بيت المعرفة"؟

مونور (بتأمل):

- يوسف على حق. نحن نُدرّس الدين، القانون، النفس… لكننا ننسى أن الإنسان ليس نظرية، بل قصة نازفة.

ليلى (بحزم):

- نحن لا نريد إسقاط النظام… نريد أن نسقط القناع عن فشلنا في أن نكون ضمير هذا النظام.

رئيس الجامعة (بشيء من التوتر):

- هذه آراء محترمة، لكننا لا نُغيّر العالم بمحاضرة. نحن نُهيّئ العقول... والباقي للزمن.

يوسف:

- لكن الزمن لا ينتظر. والحقيقة، حين تتأخر، تموت على يد الكذب.

(صمت طويل. نظرات متبادلة. نادية تهمس: "لقد بدأ المسرح الحقيقي يا أصدقائي")

(يُغلق الستار ببطء، وتبقى عبارة على الشاشة مكتوبة بخط أبيض فوق خلفية سوداء):

"أحيانًا يكون الصمت أخطر من القمع… لأنه يجعل الكذب يبدو طبيعيًا."

ما يحمل هذا المشهد:

  • إدخال السلطة الأكاديمية بشكل مباشر.
  • صدام بين الفكر الحي والمؤسسة الرسمية.
  • تصعيد درامي مع بقاء الطابع الفلسفي، دون أن يغرق في العبث أو الثورة الشعاراتية.
  • الإبقاء على الوتيرة التي تمزج بين الرؤية المثالية (الطالب) والواقع المؤسسي (رئيس الجامعة)، وهو جوهر ما نسعى اليه.

 

المشهد الخامس – "على هامش الحقيقة"

 في هذا المشهد نُدخل فيه شخصية إعلامية أو رجل دين، ليكتمل المشهد الثقافي-الفكري؟

المكان: مقهى صغير في زاوية الجامعة، نوافذه تطلّ على الحديقة، جلسات متناثرة، ضوء الشمس خافت.

الشخصيات:

  • مونور الفيلسوف الباحث.
  • ليلى الباحثة في الفن.
  • سليم الإعلامي المثقف، لكنه لا يُخفي براغماتيته.
  • شيخ كريم رجل دين يحاور بهدوء، لا يميل إلى العنف، متزن، يحضر للمقهى صدفة.
  • النادل (شاب اسمه حيدر) يحمل نكتة بين الحين والآخر.

(يجلس الجميع بهدوء، بعد انتهاء ندوة الجامعة. يحتسون القهوة. الجو مشحون بهدوء متوتر لكنه غير عدائي.)

سليم (ساخرًا):
- يا سادة، ما أجمل الفلسفة حين تُقدَّم في القاعات… وما أشد صمتها في الشارع!

ليلى:
- وهل ترى أن الفن يجب أن يكون واقعيًا ليُصغى إليه؟

سليم:
- بل أن يكون مربحًا ليُبثّ على الهواء!

مونور (بهدوء):
- ولهذا لا تبثّ القنوات صلوات التأمل، بل صرخات الغضب والدموع

(يدخل شيخ كريم، يُحييهم بلطف، يجلس قريبًا منهم. يسمع الحوار.)

شيخ كريم:
- هل تؤمنون أن الفلسفة قد تُصلح العالم؟

مونور (بنظرة طويلة):
- نعم… إن سُمح لها أن تُخطئ قبل أن تُدان.

شيخ كريم:
- ولكن، ألا ترون أن كل فلسفة تُصاغ على حساب إيمان ما؟

ليلى:
- والإيمان نفسه، أليس في جوهره نوع من الفلسفة؟ ألم يبدأ الدين بالتأمل في الغيب؟

شيخ كريم (يبتسم):
- بلى. لكن بعض الفلاسفة ينكرون الغيب، لا لشيء… إلا لأنه لا يُقاس!

سليم:
- وماذا عن العقل يا شيخ؟ أليست بعض النصوص تعارض العقل أحيانًا؟

شيخ كريم:
- النص لا يعارض العقل، بل يعلوه أحيانًا… تمامًا كما لا تُفسَّر المشاعر بالمنطق، لكنها لا تُكذّب أيضًا.

مونور (يتدخل):
- نحن لا نريد إلغاء الدين، بل تحريره من سطوة من نصّبوا أنفسهم وكلاء عنه.

شيخ كريم:
- إذن أنتم مثلي… تبحثون عن الله في الضمير، لا في السُلطة.

(النادل حيدر يضع الشاي، يضحك قائلاً:)يا جماعة الخير، لو سمعكم الشارع لقال: "الفيلسوف والشيخ صارا أصدقاء؟ لا بد أن النهاية اقتربت!"

(الجميع يضحك، الجو يلين)

مونور (يرتشف الشاي):
- النهاية تقترب فعلًا… نهاية عصر الصراخ، وبداية عصر الأسئلة.

العبارة الختامية:

"حين يتحاور الشيخ والفيلسوف، يولد الإنسان من جديد."

ملحوظة:

هذا المشهد هو تجسيد عملي لفكرة المزاوجة: "مزاوجة المثالية بالواقعية، والفكر بالروح، والبحث العقلي بالضمير الإنساني." كما يخرج المسرحية من العبثية المطلقة دون أن يُسقط بعدها الرمزي، ويمنحها بعدًا تصالحيًا مع الدين، العقل، والمجتمع، في آنٍ واحد.

 

المشهد السادس – "المرآة الأخيرة"

هو المشهد الأخير من المسرحية، وهو مشهد مفتوح يحمل تأملًا فلسفيًا، يترك المجال للجمهور كي يطرح "السطر الأخير"، كما اقترحتَ أنت بسعة أفق ورؤية تنشد التوازن بين العقل والروح.

المكان:

قاعة خالية إلا من طاولة مستديرة تتوسطها مرآة ضخمة مغطاة بقماش أبيض. الكراسي موزعة على الأطراف. ضوء خافت. موسيقى خفيفة.

الشخصيات:

  • مونور يقف متأمّلًا.
  • توران يحمل كتابًا، يقلب صفحاته دون تركيز.
  • روجر يكتب على دفتر صغير.
  • أنطوان يحدّق في سقف القاعة.
  • ليلى تدخل متأخرة، تحمل وردة ذابلة.
  • سليم يجلس جانبًا، يراقب الجميع.
  • صوت خارجي غامض يُسمع من مكبر خفي (ربما هو صوت الضمير أو الكاتب).

مونور (يقف بجانب المرآة):
- من منا يجرؤ أن يرفع الغطاء عنها؟ من منا يحتمل أن يرى الحقيقة كما هي؟ بلا أقنعة... بلا ميثولوجيا... بلا مؤسسات... بلا دفاعات.

توران (بتهكم):
- ربما لو كانت هذه المرآة شاشةً، لصفقنا لها قبل أن نراها!

أنطوان:
- أنا أخشى من رؤية نفسي مجرمًا... بلا سوط، ولا قيد، فقط بمرآة!

روجر:
- وأنا أخشى أن أرى قانوني هشًّا... أمام إنسان ينظر فقط.

ليلى (تضع الوردة الذابلة أمام المرآة):
- أنا مستعدة… ولكن لا أريد أن أكون وحدي.

سليم:
- من قال إن الحقيقة تُكشف في جماعة؟ إنها امرأة خجولة، لا تظهر إلا لمن يخلع ذاته!

مونور (يقترب من المرآة، يضع يده على الغطاء):

- سأبدأ أنا... لكن لا تسألوا ماذا رأيت... بل اسألوا: لماذا تأخرتُم في الرؤية؟

(يزيح القماش... المرآة تظهر، لكن لا تعكس شيئًا واضحًا، فقط ظلالًا متداخلة... وجوه الجميع تظهر داخلها بشكل غير واضح، كما لو كانت تذوب في بعضها)

صوت خارجي:
- أنتم... جميعكم فيها. لماذا تسألون من المخطئ؟ وأنتم كلّكم لم تحضروا الدرس الأخير.

صمت... الجميع يحدّق.

مونور (بهمس):
- من يكتب السطر الأخير...؟

(يخرج الجميع واحدًا تلو الآخر في صمت، تبقى ليلى للحظات، تهمس للجمهور)

ليلى:
- إذا رأيتم أنفسكم فيها... فاكتبوا شيئًا. السطر الأخير... ليس لنا.

(تخرج، تبقى المرآة وحدها على المسرح، ضوء خافت جدًا عليها، صوت خافت يتردد كصدى: "ماذا رأيت؟

نهاية المسرحية

ملاحظات إخراجية:

  • المسرحية تنتهي بمرآة لا تعكس صورة ثابتة، بل تكشف "تداخل الجميع"، لترمز إلى أن الحقيقة ليست ملك أحد، بل مسؤولية الجميع.
  • لا يُقال أي حكم أخير، بل يُدعى الجمهور إلى كتابة "السطر الأخير" في وجدانهم.

الخاتمة: عبور المرآة

المكان: قاعة الجامعة، مظلمة، مع تسليط ضوء خافت على كل شخصية متفرقة.

توران (بصوت خافت وحالم):

-لقد وقفنا أمام مرآة الفكر، ورأينا فيها وجوهنا الحقيقية... مشوشة، متعبة، وأحيانًا متألقة.

مونور:

- تلك الوجوه ليست ثابتة، بل تتغير مع كل سؤال، مع كل ألم، مع كل حلم.

أنطوان:

- وهكذا نحن... ننسى أن الإنسان ليس سوى رحلة بين أضدادٍ متصارعة: المثالية والواقعية، الرومانسية والبرغماتية.

روجر:

- لذا لا فوز مطلق، ولا خسارة نهائية... فقط نكون، ونُعيد البناء من رماد الشك.

توران:

- فليكن هذا عبورنا... عبورًا لا للخروج من العبث، بل للاعتراف به... والارتقاء فوقه.

مونور:

- لأن الفلسفة ليست هروبًا من الواقع، بل مدخلًا لفهمه... والتعايش معه.

أنطوان:

- وهكذا... نكمل طريقنا، غير مكتفين، بل متعطشين... للحقيقة، للإنسان، للحياة.

(يتلاقى الجميع في دائرة صغيرة، يمدون أيديهم نحو بعضهم، ثم يرفعونها نحو السماء)

الجميع (معًا):

- إلى الفجر الجديد... حيث نكون نحن.

(تتلاشى الأضواء تدريجيًا، ويعم الصمت، ثم تصدح موسيقى ناعمة تنهي المسرحية)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية