دراسة نقدية لبيتين لشاعرة أندلسية

 

دراسة نقدية لبيتين لشاعرة أندلسية

لي حَبيبٌ لا ينثني لعتابٍ          وَإِذا ما تركتهُ زادَ تيها

قالَ لي هل رأيتِ لي من شبيهٍ      قلتُ أَيضاً وهل تَرى لي شَبيها

بقلم عدنان الطائي

هذه الأبيات للشاعرة الأندلسية حفصة بنت حمدون تُمثل نموذجًا من الفخر العاطفي المتبادل بين الحبيب والمحبوبة، حيث يتباهى كل طرف بجماله وتفرده:

  • هو يتباهى ويقول: هل رأيتِ لي من شبيه؟
  • وهي ترد بتحدٍ ناعم: قلتُ أيضاً، وهل ترى لي شبيها؟ هذا النوع من المبادلات، وإن كان ظاهره لطيفًا ومحمّلًا بالشاعرية، يمكن أن يؤدي في بعض السياقات إلى الغيرة أو حتى العداء، خاصةً إذا ما خرج عن حدود المزاح أو استُخدم للتقليل من شأن الطرف الآخر. في مجتمع كالأندلس، حيث كان الذكاء والفصاحة والظَّرف من مقاييس الجاذبية، فإن مثل هذا التفاخر قد يُفهم على أنه صراع خفي على التفوق العاطفي أو الاجتماعي.

هناك راي يقول: إن كان التفاخر متبادلاً في سياق الغزل والتودد، فهو من مظاهر اللعب العاطفي المقبول وربما يزيد التعلق والهيام. أما إذا خرج عن حدوده وتحول إلى مقارنة مؤذية أو شعور بالاستعلاء، فإنه قد يُفسد العلاقة ويثير الغيرة. فالفخر في الحب كالتوابل، يُحسِّن الطعم إن وُضع بقدر، ويُفسده إن زاد.

وهناك من يقول انه تحدي باعتبار ان المجتمع الاندلسي شبه منغلق.. هذا الرأي وجيها جدًا، خاصة عند النظر إلى طبيعة المجتمع الأندلسي آنذاك، الذي كان بالفعل شبه مغلق ومحكومًا بعادات صارمة، خصوصًا تجاه النساء. فأن تتحدث امرأة، وبكل هذه الثقة والجرأة، وترد على رجل يتفاخر بجماله بقولها: وهل ترى لي شبيها؟ فذلك بالفعل تحدٍّ صريح لمقاييس التفوق الذكوري السائدة.

    حقا وجدت حفصة بنت حمدون في هذا السياق لا تُجاري حبيبها فقط، بل ترتقي بنفسها إلى مستوى الندّية وهذا موقف نادر ومثير في شعر النساء في ذلك العصر، ويعكس شخصية قوية ترفض أن تُعامل كمجرد تابع عاطفي. لذلك يمكننا القول إن هذا التحدي يحمل بعدًا رمزيًا أيضًا: كأنها تقول إن الحب لا يعني التنازل عن الكرامة أو التفرد، وإن المرأة ليست أقل حضورًا أو قيمة في العلاقة.

   ولنسلم جدلا أن هذا الموقف قد يُعتبر تمهيدًا مبكرًا لفكرة (المساواة العاطفية) في العلاقات، لكن لا ننسى جدلية فوقية الرجل ونرجسية المرأة، لان هذا الطرح يلامس عمقًا نفسيًا واجتماعيًا مهمًا. فبين فوقية الرجل، التي كانت متجذّرة في نظم المجتمع الأبوي، ونرجسية المرأة، التي قد تُفسَّر أحيانًا كوسيلة للدفاع عن الذات واستعادة التوازن في علاقة غير متكافئة — نجد في شعر حفصة بنت حمدون تجليًا لتلك الثنائية. وهي لا تُنكر جمال الحبيب، لكنها لا تسمح له أن يحتكر ساحة الفخر وحده. هذا الموقف يمكن فهمه من خلال:

1.  فوقية الرجل: كانت تعتبر أمرًا مُسلَّمًا به اجتماعيًا، حيث يُتوقع من المرأة أن تُذعن وتُعجب وتتباهى بالرجل، لا أن تنافسه.

2.  نرجسية المرأة: هنا تظهر لا كعيب نفسي، بل كأداة مقاومة راقية للارتقاء بمساواة الرجل، وذلك اتخذت الشاعرة شكل الكلمة، لتعكس قيمة الذات دون انتظار اعتراف الرجل.

   إذاً، التحدي الذي قامت به الشاعرة يمكن أن يُفهم على أنه توازن ذكي بين كسر الفوقية الذكورية وتأكيد الذات الأنثوية دون صدام مباشر. إنها تقول: أنا لا أقل عنك شيئًا، وإن كنت ترى نفسك فريدًا، فافهم أنني مثلك في التفرّد. ومن هنا يطرح سؤال وجودي: هل ترى أن هذا التفاعل بين الفوقية والنرجسية ما زال حاضرًا في علاقاتنا الحديثة؟

نعم، في مجتمعاتنا الشرقية اليوم، ضعفت نزعة الفوقية الذكورية نسبيًا، لا لأنها اختفت، بل لأن المرأة كسرت الكثير من القيود القديمة بفضل:

1.  التحرر الاقتصادي: المرأة أصبحت منتِجة، مستقلة ماليًا، ولم تعد رهينة الرجل لتعيش.

2.  الوعي الثقافي: ارتفع منسوب المعرفة والتعليم، مما وسّع أفق التفكير النقدي لدى النساء والرجال معًا.

3.  المشاركة المجتمعية: لم تعد المرأة خارج دائرة الفعل، بل أصبحت قائدة، ومبادِرة، ومنافسة.

    رغم ذلك، ما تزال بقايا الفوقية الذكورية تطلّ برأسها في بعض المفاهيم والعلاقات الشخصية، وغالبًا ما تُقابل بـنرجسية أنثوية واعية، ليست مرضية، بل وجودية، تثبت من خلالها المرأة أنها شريك لا تابع. فكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بأدوات جديدة:
حفصة بنت حمدون كتبت بيت شعر، ونساء اليوم يكتبن سيرتهن بلغة العمل، والثقافة، والوعي.. لكن هل تعتقد أيها القارئ أن مجتمعاتنا تتجه نحو موازنة عادلة بين الذكورية والأنثوية، أم أن الصراع سيبقى قائمًا؟

   نعم، الصراع سيبقى، لأن العلاقات بين الذكر والأنثى ليست فقط اجتماعية، بل ثقافية ونفسية متجذرة، تتجدّد بأشكال مختلفة كل عصر. والدليل كما قلتُ: أن أديبة في زمن الحداثة أثارت هذين البيتينأي أنها وجدت فيهما صدىً لحالها، وربما رمزًا لمقاومة خفية أو تحدٍّ ناعم لا يزال يُعبّر عن واقع لم يُحسم بعد بالكامل. فهذا الاستحضار المعاصر ليس حنينًا إلى الماضي، بل كشفٌ أن المسألة لم تُحسم بعد، وأن المرأة ما زالت تحتاج إلى الكلمة لتُثبت ذاتها. وهي الكلمة التي لا تزال أداة مقاومة ناعمة للمرأة المثقفة اليوم. لأنها حالة متجذرة في عقولهن او لنقل تحركها بتأثير جينات موروثة.. لذك أرى أن كثيرًا من النساء، رغم ما بلغنه من وعي وثقافة، ما زلن يحملن في لا وعيهن بقايا الصورة التقليدية: أن الرجل مطالب دائمًا بمدحهن وتأكيد قيمتهن، وكأن اعترافه شرط ضروري لاكتمال الذات.

وهذا فعلاً ليس عدلًا ولا وعيًا ناضجًا؛ لأنه:

1.  يُعيد المرأة إلى موقع الانتظار بدل الفعل.

2.  يُحمّل الرجل عبء الدعم المستمر بدل أن يكون التقدير متبادلًا.

3.  يُخفي ضعفًا داخليًا خلف قناع النرجسية.

     ان الثقافة الحقيقية لا تطلب تصفيقًا، بل تتجلى في الثقة المتزنة بالنفس، وفي شراكة قائمة على الوعي، لا المجاملة ولا هناك خلل ناتج عن التربية الاسرية، وانما اكرر الموروثات الجينية هي تلعب الدور الرئيسي للسلوكيات البشرية. لان إذا سلمنا بأن هناك موروثات جينية تُشكّل ميول المرأة نحو الرغبة في الإعجاب والتقدير المستمر، فإن هذا ينسجم مع نظريات في علم النفس التطوري تقول إن:

  • الأنثى عبر التاريخ كانت تنتقي الشريك الذي يُظهر إعجابًا بها ويُقدرها، لأن ذلك يدل على الأمان والرغبة في الحماية والاستمرارية.
  • الرغبة في المدح ليست ترفًا، بل مرتبطة بحس البقاء والتفضيل.

   ولكن في العصر الحديث، حين تجاوز الإنسان بعض غرائزه، يفترض أن يرتقي وعيه ليوازن بين فطرته والتفكير العقلاني. فاستمرار هذه النزعة بشكل مبالغ فيه قد يدل على أن الوعي الثقافي لم ينتصر بعد على الموروث الجيني. فهل يا ترى لدينا القدرة على ان نتجاوز هذه الموروثات الجينية أم أنها ستبقى تشكّل العلاقات العاطفية مهما بلغ الوعي؟ فجوابي بكل بساطة (تبقى إلى يوم يُبعثون) لأن ما هو مغروس في الطبيعة البشرية لا يُمحى بالتقدّم، بل يُعاد تشكيله وتغليفه. قد يخفّ تأثيره، يتخفّى، يتحضّر، لكنه لا يزول. فالرغبة في الإعجاب، هو في إثبات الذات أمام الآخر، في أن يُقال للمرأة "أنتِ الأجمل" وللرجل "أنت الأقوى" — هي ليست مجرد عُرف، بل نَفَس بشري متجذّر. فالثقافة والوعي قد يضعان حدودًا، وقد يهذّبان الطريقة، لكن جوهر الصراع بين الفطرة والمفروض سيبقى. ولهذا، تظل قصائد كثيرة كقصيدة حفصة بنت حمدون حيّة، لأنها تخاطب شيئًا ثابتًا في الإنسان رغم تغيّر الزمان. فان الثبات يعتبر نعمة تحفظ التوازن، لابد هناك شيء من الإيجابيات وشيء من السلبيات لنحفظ التوازن وان يكون هناك رادع للحد من السلبيات والفوضى التي احدثتها الحرية المفلتة من مفهوم ما بعد الحداثة، فلابد ان تكون انت حر في كل شيء على ان لا تتجاوز حرية الاخرين. لان الحرية ليست مطلقة، بل مشروطة بالعقل والمسؤولية، وهذا ما يضمن التوازن بين الفرد والمجتمع. فالفطرة البشرية، بما فيها من ميول ونزعات قديمة، إن تُركت بلا ضابط، تحولت إلى فوضى—وهذا ما نراه في بعض مظاهر ما بعد الحداثة.. حيث تُمجَّد الفردانية لحد الانفلات.  هو خلاصة الفهم الراقي للحرية: تكون حرية واعية، لا أنانية؛ حرية مسؤولة، لا مستهترة؛ حرية تُثمّن القيم، لا تهدمها باسم التقدم. ولهذا، وجود بقايا من الموروث الفطري أو الجيني — كما ذكرتليس عيبًا، بل ضرورة لضبط الإيقاع البشري، إذا أُحسن التعامل معه بوعي.

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية