قدر التغيير... حين يتكلم التاريخ هل القيم الإنسانية ثابتة أم خاضعة لمعادلات الحتمية التاريخية؟

 

قدر التغيير... حين يتكلم التاريخ

هل القيم الإنسانية ثابتة أم خاضعة لمعادلات الحتمية التاريخية؟

بقلم: عدنان الطائي

في لحظة سكونٍ مُنهكة، حين يبدو كل شيء ثابتًا، يولد التغيير لا من الرغبة، بل من الضرورة. هناك ما هو أعمق من القرار الفردي، وأقوى من إرادة النخبة: إنه التاريخ حين يقرع أبواب الزمن. الحتمية التاريخية، كنظرية فلسفية وسوسيولوجيا، لا تمنح الفرد أو الجماعة كامل زمام التغيير، بل تُسير عجلة الأحداث بقوانينها الداخلية. فحين تكتمل الشروط، وتبلغ التناقضات مداها، يندفع التغيير لا كخيار، بل كقدر. في كل لحظة فارقة، لا تكون القوى المؤثرة مجرد حكومات أو مؤامرات، بل منظومات فكرية واقتصادية وثقافية، تنهك الوعي الجمعي، وتعيد تشكيل الواقع.. فالناس يتغيرون حين يُجبَرون، لا حين يُنصحون. والأنظمة تنهار حين تفقد قدرتها على التكيّف، لا فقط حين تُعارض. أما الأفكار — حتى النبيلة منها — حين تفقد حيويتها، تُغادر المشهد بصمت، لتُفسح الطريق لبدائل قد تكون أضعف أو أقسى.

    في مدننا العربية، لم يكن الاستبداد حاكمًا فقط، بل عقلية. ولم يكن الاحتلال جيوشًا، بل منهجًا. ولهذا، لم يكن التغيير مجرد احتجاج، بل قدرٌ مكتوب في تضاريس الخوف وفي صمت القبور.

العراق مثلا... مسرح التحولات الصامتة

في الحالة العراقية، لم يكن التغيير مجرد صراع على السلطة، بل إعلان عن انتهاء صلاحية منظومة كاملة. الدولة تهالكت، والهوية تصدّعت، والقيم اختلطت عليها الموازين. هكذا كتب التاريخ فصله الأخير في نموذجٍ سياسي فشل في إنتاج الأمل، وها هو يفتتح فصلاً جديدًا لم تتضح ملامحه بعد. هل القيم الإنسانية هي الاخرى ضحية للحتمية؟

   يتوهم البعض أن القيم الكبرى — كالعدالة، والحرية، والكرامة، والرحمة — خارج معادلة التغيير. لكن الحقيقة المؤلمة أن الحتمية التاريخية تمسها كما تمس الأنظمة والمؤسسات.

- فالعدالة التي كانت تعني الانتقام، باتت اليوم تُفهم كمساواة. العدالة مثلًا، ما كانت تعني في زمن القبيلة ليس ما تعنيه في زمن الدولة.

 - والحرية، من طاعة الله، تحوّلت إلى استقلال عن أي وصاية. يعني الحرية، التي كانت تُفهَم قديمًا بأنها طاعة الخالق دون وسيط، باتت تُفهم اليوم بأنها كسر كل وصاية باسم الفرد

 - الكرامة، من مفهوم الشرف الجمعي، باتت اليوم مرتبطة بسلطة الفرد على مصيره. يعني الكرامة، التي كانت ترتبط بالشرف الجمعي، صارت ترتبط بالاستقلال الفردي.

- وحتى الرحمة، أُخضعت لميزان السياسة: تعني التسامح حين ننتصر، وتعني "ضعفًا" حين نخسر.

   وسأوسع الآن الحديث من ثلاث زوايا: فلسفية، دينية، واجتماعية، لتوضيح كيف تخضع التقييمات الإنسانية لتأثير الحتمية التاريخية، دون أن تفقد بالضرورة جوهرها.

أولًا: من الزاوية الفلسفية

الفلاسفة اختلفوا في أصل القيم الإنسانية:

  • الفلسفة المثالية (أفلاطون مثلاً): ترى أن القيم مثل العدالة والخير موجودة في عالم المثل، ثابتة وخالدة.
  • الفلسفة الواقعية/المادية (ماركس، نيتشه): تعتبر أن القيم نتاج للواقع الاجتماعي-الاقتصادي، وهي تتغير تبعًا لتغير البنية الاجتماعية والتاريخية.

- ماركس مثلاً يرى أن "الضمير الأخلاقي" ليس كونيًا، بل يتشكل من الواقع الطبقي؛ فالبرجوازي له ضميره، والعامل له ضميره المختلف.

  - نيتشه ذهب أبعد، فاعتبر أن ما يُسمى "قيم الخير" هو اختراع الضعفاء (العبيد) ليقيدوا الأقوياء.

الخلاصة الفلسفية: القيم تخضع لتغير التاريخ، لكنها قد تشير إلى حاجة إنسانية ثابتة (مثل الرغبة في العدل)، وإن تغيّرت أشكالها.

ثانيًا: من الزاوية الدينية

الأديان تؤكد وجود قيم أخلاقية سامية مستمدة من إرادة إلهية، لكنها تُطبّق في سياقات مختلفة عبر الزمن:

  • في الإسلام مثلاً، مفهوم العدل والرحمة راسخ، لكن الفقهاء مارسوا الاجتهاد لتطبيق هذه القيم بحسب تطور المجتمع.
  • المسيحية تبنّت في البداية مفاهيم "التسليم والمعاناة"، لكن مع مرور الزمن تطورت لتدافع عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

الخلاصة الدينية: القيم ثابتة في جوهرها (إلهية المصدر)، لكنها تتأثر بالحتمية التاريخية في طريقة تطبيقها وتأويلها، وهو ما يظهر في تنوع الفقه والتيارات.

ثالثًا: من الزاوية الاجتماعية

علم الاجتماع يبين أن القيم الأخلاقية تُكتسب عبر التنشئة، وتتغير بتغير البيئة:

  • القيم في المجتمعات التقليدية (الطاعة، الشرف، الجماعة) تختلف عن قيم المجتمعات الحديثة (الحرية، الفردية، التعدد).
  • العولمة والرقمنة غيّرت أولويات القيم الإنسانية (الخصوصية مثلاً أصبحت مهددة بسبب التكنولوجيا).

- إميل دوركايم رأى أن المجتمع يخلق القيم ليحافظ على توازنه، وأن ما يُعدّ "خيرًا" هو ما يخدم تماسك الجماعة.

الخلاصة الاجتماعية: القيم ليست ثابتة، بل تُعاد صياغتها مع تطور المجتمع، وهي مرآة للحاجات والتحولات.

كلمة أخيرة:

رغم تغير الأشكال والتطبيقات، تبقى هناك نواة أخلاقية مشتركة بين البشر – مثل رفض الظلم، واحترام الحياة – تتجلى بأشكال متعددة عبر التاريخ، ولكن لا تختفي.

وهكذا تتغيّر القيم لا لأنها فاسدة، بل لأن الإنسان الذي يحملها تغيّر وعيه. ومع تغيّر الوعي، تتبدل الأولويات، وتُعاد صياغة المبادئ بما يناسب شروط الزمان والمكان. لكن... هل تموت القيم؟ الجواب: رغم كل شيء، لا تموت القيم. قد تتراجع، تُحرف، تُشوَّه، لكنها تبقى كامنة في ضمير من لم يفقد الإيمان بالإنسان. في العراق، كما في بقية البلاد التي أنهكها التنازع، ما زال هناك من يؤمن بالحق، حتى وإن سُخر منه. من يحلم بالحرية، حتى وإن حُوصر. من يطالب بالكرامة، ولو خسر من أجلها كل شيء.

التغيير قادم، لأنه محتوم.
وليس السؤال: هل سنتغير؟
بل: هل سنكون فاعلين في إعادة بناء منظومة القيم؟
أم سنُترَك ليعيدنا التاريخ نفسه، مرة بعد أخرى، إلى لحظة البداية؟

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية