بين الدولة الدينية والدولة العلمانية: جدلية المفارقة في العقل العراقي
بين الدولة الدينية
والدولة العلمانية: جدلية المفارقة في العقل العراقي
قراءة في مقولة علي
الوردي: "لو خيّروا العرب بين دولتين، دينية وعلمانية، لصوّتوا للدينية
وذهبوا للعيش في العلمانية"
بقلم عدنان الطائي
مقدمة
تشكل مقولة المفكر
الاجتماعي العراقي الراحل علي الوردي مفتاحًا لفهم التناقضات المتجذّرة في الوعي
العربي، وخاصة العراقي، بين ما يُعلن نظريًا وما يُمارس عمليًا. فالمفارقة الساخرة
التي صاغها الوردي بدقة تلخص مأزقًا نفسيًا واجتماعيًا عميقًا: المواطن العربي
يطالب بدولة دينية، لكنه لا يجد سعادته إلا في أحضان دولة علمانية تحترم كرامته
وتضمن حريته!
في الحالة العراقية،
نجد هذا التناقض في أوضح صوره، حيث تحكم الأحزاب الدينية البلاد منذ عام 2003،
بينما يتزايد عدد العراقيين الذين يحلمون بالهجرة إلى الدول العلمانية. فهل نحن
أمام أزمة وعي؟ أم أمام واقع سياسي دفع المواطن إلى الانفصام بين إيمانه النظري
وتجربته الحياتية؟
أولاً: الانحياز
العاطفي للدولة الدينية
تستمد الدولة الدينية
جاذبيتها من الإرث الثقافي والديني، حيث يتصور الكثيرون أن الحكم باسم الله سيكون
بالضرورة عادلاً، نزيهًا، ومباركًا. وغالبًا ما يُربط بين الدولة العلمانية وبين
الانحلال الأخلاقي أو العداء للإسلام.
في العراق، جاءت معظم
الأحزاب إلى السلطة عبر شعارات دينية وشبهات "التمثيل المذهبي"، فاختلط
الدين بالسياسة، واختُزلت العدالة في الطائفة، والوطن في المذهب. إلا أن السنوات الطويلة من حكم الأحزاب الدينية أظهرت صورة قاتمة:
- فساد مستشرٍ في مؤسسات الدولة.
- محاصصة طائفية قتلت روح المواطنة.
- قمع للحريات وتضييق على الفكر المختلف.
- تسلط رجال الدين على القرار السياسي
والاقتصادي.
وهكذا، أصبحت الدولة
الدينية في الواقع العراقي أداة للقهر لا للعدل.
ثانيًا: الحنين الواقعي
إلى الدولة العلمانية
رغم التعلّق النظري
بالدين، نجد أن كثيرًا من العراقيين – خصوصًا المتعلمين وأصحاب الكفاءات – يهاجرون
إلى دول علمانية مثل كندا وألمانيا وأستراليا، حيث:
- تُحترم كرامة الإنسان دون النظر إلى دينه
أو مذهبه.
- يُحاسَب الجميع أمام القانون، بلا حصانة
دينية أو سياسية.
- تُكفل الحريات الفردية، ويُفصل الدين عن
مؤسسات الدولة.
هؤلاء لا يترددون في
الإشادة بقيم الديمقراطية والعدالة والحرية هناك، رغم أنهم في العراق قد يصوّتون
لأحزاب دينية. وهنا تكمن ذروة المفارقة التي أشار إليها الوردي: الميل العقائدي للدولة
الدينية، والحنين العملي للدولة العلمانية.
ثالثًا: بين شيطنة
العلمانية وفهمها الصحيح
غالبًا ما تُشوَّه
العلمانية في الخطاب الديني، وتُقدَّم على أنها ضد الدين أو معادية للإسلام، بينما
هي – في جوهرها – مبدأ إداري وتنظيمي يقوم على فصل السلطات الدينية عن السياسية،
لمنع استغلال الدين في تبرير الظلم والاستبداد.
في الدول العلمانية
الناجحة:
- يُحترم الدين باعتباره خيارًا فرديًا.
- لا يُمنع أحد من ممارسة شعائره.
- وتُبنى الدولة على أساس المواطنة لا
العقيدة.
أما في الدول ذات
الطابع الديني الرسمي، فغالبًا ما يتحوّل الدين إلى أداة قمع، وتُفرض تفسيرات
معينة على الجميع، وتُهمَّش الأقليات، ويُكفَّر المختلفون، كما حدث ويحدث في
العراق منذ سنوات.
رابعًا: جذور المفارقة
في النفس العراقية
هذه الازدواجية
السلوكية والفكرية لها جذور عميقة:
- الانفصام التربوي بين المدرسة والبيت،
حيث يتعلم الطفل قيمًا دينية تقليدية، لكنه يرى في الواقع فسادًا باسم الدين.
- الخوف من فقدان الهوية في ظل العولمة،
مما يجعل الناس يتمسكون بالدين كشكل من أشكال الانتماء، لا كقيمة سلوكية.
- غياب البدائل الوطنية العلمانية ذات
المصداقية، مما يجعل الخيار الوحيد المتاح هو إما الأحزاب الدينية أو الفراغ.
ولذلك، نجد أن الناس
يختارون الأحزاب الدينية كأهون الشرين، وليس بالضرورة عن قناعة تامة.
خاتمة: مصالحة مع الذات
قبل النظام
إن بناء دولة عادلة لا
يتم عبر رفع شعارات دينية أو علمانية، بل من خلال:
- احترام الإنسان كقيمة عليا.
- ضمان العدالة والكرامة والمساواة.
- وإقامة دولة مؤسسات لا دولة شعارات.
- العراق بحاجة إلى دولة مدنية تحترم الدين دون أن تتاجر به، وتفصل بين المساجد والبرلمان، وتحمي الجميع دون تمييز.
- إن مقولة الوردي ليست مجرد سخرية، بل مرآة لنا جميعًا، نواجه فيها حقيقتنا المؤلمة: لا خلاص من الفساد باسم الدين، ولا كرامة بدون عدالة مدنية. فإما أن نتصالح مع وعينا، أو نظل أسرى المفارقة… ننتخب دولة دينية ونحلم بدولة علمانية!
تعليقات
إرسال تعليق