الفلسفة بين الهيمنة والتحرر: أداة صراع لا حياد فيها

 

الفلسفة بين الهيمنة والتحرر: أداة صراع لا حياد فيها

  الفلسفة بين الهيمنة والتحرر: أداة صراع لا حياد فيها

تمهيد:
من الخطأ الظن بأن الفلسفة كيانٌ محايد يبحث في المجردات والمعاني العليا بمعزل عن الواقع الاجتماعي والتاريخي. فمهما ارتدت من أقنعة الحياد أو الموضوعية، فإنها تظل مشبعة بمواقف طبقية وإيديولوجية، سواء أدركها الفيلسوف أم لم يدركها. فالفلسفة، في جوهرها، أداة تُستخدم إما لتكريس الواقع القائم بما فيه من قهر وتمييز، أو لتفكيكه والدعوة إلى تغييره.

الفلسفة كأداة طبقية:

   هذا التوصيف ليس تجنياً على الفلسفة، بل هو كشف لوظيفتها المتغيرة تبعاً لموقعها في نظام الهيمنة الطبقية. فكما أن الفنون، والتعليم، والدين، يمكن أن تتحول إلى أدوات تخدم الطبقة المهيمنة، فإن الفلسفة ليست استثناءً. الفلسفة "البرجوازية" مثلاً قد ترتدي لباساً ثورياً، لكنها تظل في بنيتها العميقة مكرّسة للحفاظ على النظام القائم. أما الفلسفة الثورية، فهي التي تمتلك قدرة النقد الجذري، وتُمارَس ضمن مشروع تحرري، تستند إلى العقل النقدي، وتسعى لفضح البنى الاجتماعية الجائرة لا لتجميلها.

أهمية النقد كأداة كاشفة:

    تبرز أداة النقد بوصفها معيارًا للتمييز بين الفلسفة الثورية وتلك التي تخدم السلطة. وليس من المصادفة أن نجد كلمة "نقد" (Critique) تتكرر في مؤلفات كارل ماركس، بدءًا من "نقد فلسفة الحق عند هيغل" إلى "نقد الاقتصاد السياسي"، مما يدل على أن جوهر مشروعه الفكري ليس إنتاج منظومة مثالية، بل تفكيك المنظومات القائمة وكشف زيفها.

الفلسفة كذريعة للهيمنة: مثال الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان: أحد أبرز الأمثلة الحديثة على توظيف الفلسفة في خدمة الهيمنة هو استناد الولايات المتحدة، في عهد جورج بوش الابن، إلى أفكار الفيلسوف المحافظ ليو شتراوس، وخاصة تفسيراته "الميتافيزيقية" لفكرة العدل الإلهي. فقد رُوِّج أن التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان هو لتحقيق العدالة والحرية، بينما كان في حقيقته غزواً إمبريالياً مغطى بخطاب فلسفي ديني–سياسي.

    ليو شتراوس، الذي آمن بأن الأكاذيب النبيلة ضرورية لحماية النظام، ألهم تلامذته في الإدارة الأمريكية لإنتاج رواية عن "نهاية التاريخ" و"حتمية الديمقراطية الليبرالية"، وهي روايات تم تسويقها كثوابت فلسفية، لكنها في الجوهر كانت أداة تبرير لهيمنة عسكرية واقتصادية، تجلّت بوضوح في اجتياح العراق وتدمير مؤسساته تحت شعار نشر الحرية.

الخاتمة:
ليست كل فلسفة في ظاهرها إنسانية تكون كذلك في مضمونها. بل لا بد من مساءلتها: لمن تتحدث؟ ماذا تبرر؟ وما الذي تسكت عنه؟ الفلسفة، رغم طابعها التأملي، ليست خارج الصراع، بل في قلبه. إنها كالسيف، يمكن أن يُستخدَم للدفاع عن العدالة، أو لقطع رأسها. ولهذا فإن مسؤولية المفكر ليست في اجترار المفاهيم، بل في تفكيك الخطاب وكشف ما وراءه، والانحياز الواعي للحق والحرية والعدالة الاجتماعية.

مراجع مقترحة:

  • كارل ماركس، "نقد فلسفة الحق عند هيغل"
  • كارل ماركس، "نقد الاقتصاد السياسي"
  • ليو شتراوس، "القانون الطبيعي والتاريخ"
  • شادي رُستم، "الفلسفة والسياسة في فكر المحافظين الجدد"
  • نعوم تشومسكي، "السيطرة على الإعلام"

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية