مسرحية ما بعد العبث (غبار المعنى) ... من العبث إلى الإحياء: مقاربة فلسفية-مسرحية
مسرحية ما بعد العبث (غبار المعنى) ... من
العبث إلى الإحياء:
مقاربة فلسفية-مسرحية
بقلم: عدنان الطائي
في عالمٍ يتخبط بين فقدان المعنى وتضخم
الصراخ، تتقدم مسرحية "غبار المعنى"
لتُجسّد مأزق الإنسان المعاصر، لا بهدف البكاء على عبثية الوجود، بل للعبور
منها إلى ما يمكن أن نسميه "مسرح ما بعد العبث"
— مسرح يقرّ بعدم وجود معنى جاهز، لكنه يُصرّ على أن المعنى يُصنع بالمواجهة،
لا بالانكفاء.. من العبث كما صوّره
كامو
في الفصول الأولى من
المسرحية، تُخيم على الشخصيات أجواء العبث — اللاجدوى، السأم، الجمود، والاغتراب.
تعكس الحوارات طبيعة المسرح العبثي كما صوّره ألبير كامو في كتابه "أسطورة سيزيف": عالم لا يُجيد الإجابة،
وإنسان لا يكفّ عن السؤال. شخصيات المسرحية تدور
في الفراغ، وتُعيد إنتاج جمل جوفاء، فتُجسّد أزمة "الوعي باللاجدوى". لكن كما قال كامو: "لا يكفي أن نقول إن
الحياة لا معنى لها... يجب أن نعيشها على هذا الأساس." وهنا تبدأ المسرحية في التحول...
نقطة التحوّل: الحبكة والتمرد على العدم
في منتصف النص، تظهر
الشقوق الأولى في جدار العبث. تبدأ شخصية
"إيلان" في إعلان رفضها للركون إلى العدم، وتصرخ: "إن لم يكن للمعنى
باب... فلنكن نحن هذا الباب."وهذه الجملة ليست فقط
تحولاً درامياً، بل إعلان فلسفي يُنهي مرحلة الهزيمة، ويبدأ منها رحلة المقاومة
الرمزية والذهاب الى المزاوجة بين المثالية
والواقعية في المشهد الأخير، يتحول
الانكسار إلى حوار، وتتجه الشخصيات من الانعزال إلى البحث المشترك. هنا تُمارس المسرحية مزاوجة دقيقة بين الواقعية (الاعتراف بالمأزق)
والمثالية (محاولة تجاوزه)، وهو ما يجعل هذا العمل يتجاوز التوصيف التقليدي لمسرح
العبث. فلسفياً، يمكن القول إن
المسرحية لا تدّعي الوصول إلى المعنى، لكنها تنقلنا من السقوط في الفراغ إلى
الرغبة في الوقوف داخله. من مواجهة اللامعنى إلى
صناعة المعنى المؤقت، الذاتي، التجريبي، المتحوّل.
لماذا "غبار المعنى"؟
الغبار في العنوان هو ما يسبق الرؤية… ما
يُخيّم على الحقيقة قبل أن تُجلى. والمسرحية تُجسّد هذا الغبار: ليست يأسًا، بل
مرحلة انتقالية نحو شيء إنساني أعمق — ربما هش، لكنه صادق.
خلاصة فكرية
(غبار المعنى) ليست فقط
نصًا أدبيًا، بل مشروعًا فكريًا يُعيد الاعتبار للإنسان في قلب العبث.
وهي دعوة مفتوحة لتبني مسرح يُزاوج بين جمالية الفكرة وواقعية الألم،
ويُعيد للفن مسؤوليته الكبرى: أن يُحاور الإنسان في أقصى حالات هشاشته… دون أن
يخذله.
سرد مسرحية: غبار المعنى
تأليف: [عدنان الطائي
المشهد الأول: "اللاشيء"
المكان: غرفة صغيرة، جدرانها
رمادية باهتة، بلا نوافذ. ساعة معلقة تشير إلى نفس الوقت دائماً.
الشخصيات:
- آدم: رجل خمسيني، وجهه
شاحب، عيناه هاربتان.
- نورا: امرأة أربعينية،
تنظر في الفراغ.
(ضوء خافت. صوت ساعة تدق
ببطء. صمت طويل، ثم يتكلم آدم فجأة)
آدم: لماذا استيقظنا اليوم
أيضًا؟
نورا: لأجل أن ننتظر النوم من
جديد.
آدم: ألا نعرف إن كان
البارحة قد مر؟ أم أننا نعيد نفس اليوم؟
نورا: وهل يهم؟ الشمس لم تطرق
هذا الجدار منذ قرن.
آدم: ولا أحد يطرق بابنا...
ولا نحن نطرقه.
(صمت، ثم تنهيدة)
نورا: الحياة، كما قال كامو،
عبء لا تفسير له.
آدم: بل ملهاة بلا جمهور.
(يسدل الستار على مشهد
من الجمود، والعبث، واللا جدوى)
المشهد الثاني: مرآة بلا وجه
المكان: نفس الغرفة، لكن الآن
هناك مرآة سوداء كبيرة في المنتصف.
) يدخل شخص ثالث)
يوسف: (شاب، يحمل بيده كتابًا دون
عنوان) هل رأيتم المرآة؟
آدم: نعم، لكنها لا تعكس
وجهي.
نورا: لأنها لا ترى من لا يرى
ذاته.
يوسف: أتيت أبحث عن سؤال،
لكني وجدت صدى لا صوت.
آدم: كل الأسئلة تموت في
منتصف الطريق.
نورا: تمامًا مثل منازلنا،
وعلاقاتنا، وخيباتنا.
يوسف: إذًا لماذا لا نخلق
سؤالًا جديدًا؟
(آدم ونورا ينظران إليه
بدهشة، ثم إلى بعضهما)
آدم: ربما لأننا كنا خائفين...
نورا: خائفين من أن نجد
الإجابة.
(ضوء خافت يسلّط على
المرآة التي تبدأ بالتوهج)
يوسف: أحيانًا، المعنى لا
يُمنح... بل يُخترع.
) يسدل الستار على بداية تحوّل داخلي في الشخصيات)
المشهد الثالث: عشب على الإسفلت
المكان: فضاء مفتوح، أشجار
رمزية، نور طبيعي خفيف، أصوات طيور.
(آدم ونورا الآن يلبسان
ملابس ذات ألوان باهتة لكن دافئة. يوسف يزرع نبتة صغيرة في وعاء. (
نورا: الهواء مختلف هنا...
وكأنه يحمل ذاكرة الشمس.
آدم: لا زلت لا أفهم... ما
الذي تغيّر؟
يوسف: أنتما من تغيّر. لم
تعودا تنتظران، بل بدأتما تصنعان.
نورا: لكن ماذا عن عبثية
الحياة؟ ألم تزل؟
يوسف: العبث باقٍ، لكنّنا
لسنا عبثيين. نواجهه بخلق، لا بهروب.
آدم: إذًا، هذه ليست
مثالية... بل مقاومة.
نورا: والمقاومة، هي أول بذرة
للمعنى.
يوسف: الفن، الفكرة، الحب،
الغفران... كلها ليست تفسيرات للحياة، بل احتجاجات ضد عبثها.
(تُضاء المسرح كله بنور ناعم، وتُسمع موسيقى خفيفة، الأمل ينبعث في
الوجوه)
نورا: لنتقاسم الخوف... ونكمل
الحكاية.
(يسدل الستار على بداية جديدة: الإنسان لا
يبحث عن معنى فقط، بل يصنع)
تعليقات
إرسال تعليق