جدلية مسرح العبث ومسرح ما بعد العبث (بين مزاوجة المثالية والواقعية ورحلة البحث عن المعنى الإنساني)

 

جدلية مسرح العبث ومسرح ما بعد العبث

(بين مزاوجة المثالية والواقعية ورحلة البحث عن المعنى الإنساني)

بقلم عدنان الطائي

أولا: مسرح العبث وفلسفته

   المسرح العبثي شكل منعطفًا فنيًا وفلسفيًا عميقًا في القرن العشرين، حيث طرح تساؤلات حول عبثية الوجود، غياب المعنى، وصراع الإنسان مع الواقع الفوضوي. على الرغم من عمق أفكاره، فإن المأزق الذي طرحه كثيرًا ما يقود إلى التشاؤم والانعزال الفكري، كما في فلسفة ألبير كامو، الذي ركز على فكرة العبث وعدم جدوى البحث عن معنى مطلق في الحياة. لكن، هل يمكن للمسرح العبثي أن يقدم أكثر من مجرد تأملات في اللا معنى؟ هل يمكن أن يكون منصة تحفيزية تجمع بين المثالية والواقعية لتقديم رؤية إنسانية متجددة، تواكب صراعات الفكر والواقع المعاصر؟

   العبثية في فكر ألبير كامو، حيث ركز كامو في فلسفته العبثية على انعدام المعنى لان الحياة لا تحتوي على معنى جوهري، والبحث عنه عبث (كما في أسطورة سيزيف الذي يدحرج صخرة للأبد بلا هدف). ويحرر الانسان من الأوهام الدينية والمادية، وعلينا أن نعيش بشغف في اللحظة. ونتخيل سعادة سيزيف. وان كثير من المسرحيين مزجوا العبث مع السخرية السوداء، واشهرهم صموئيل بيكيت (Samuel Beckett) في مسرحيته "في انتظار غودو امتازت بحوارات دائرية بلا معنى. ويوجين يونيسكو (Eugène Ionesco) في مسرحيته "الكراسي تحويل الروتين اليومي إلى شيء مرعب ومضحك واللغة تتحول إلى ثرثرة فارغة. وكذلك هارولد بنتر (Harold Pinter) في مسرحيته "المكالمة الأخيرة" غرباء يغزون حياة شخص عادي بتهديدات غامضة، مما يخلق إحساسًا بالخوف الساخر. 

  أخيرا جميع المسرحيين تأثروا بفلسفة كامو (العبثية) وسارتر (الوجودية)، ورأى أن الحياة بلا معنى مسبق، والبحث عن معنى هو عبث في حد ذاته والموقف من الواقع في حالة سخرية سوداء، يأس، حوارات دائرية، شخصيات عالقة في فراغ وجودي. 

وهنا نقدم مسرحية تطبيقية عبثية قصيرة بعنوان: "المكالمة الأخيرة" 

(كوميديا سوداء على طريقة مسرح العبث) 

الشخصيات: 

- موظف الاتصالات (يرتدي بذلة مخططة باللونين الأبيض والأسود، حذاءه مختلفان). 

- المتصل الغامض (صوته يظهر من سماعة هاتش قديم، لكن لا يُرى جسده). 

- شاشة عرض (تكتب رسائل عشوائية بلون أحمر). 

المشهد الأول: 

(غرفة عمليات مركز اتصالات. هاتف واحد على طاولة مهترئة. الشاشة تعرض: "يوم عمل عادي!"). 

الموظف: (يضحك منفردًا) 

أهلاً بكم في خدمة العملاء... كيف يمكنني مساعدتكم؟ 

المتصل: (صوت مشوّش) 

هل هذا هو الخط الصحيح؟ 

الموظف: (ينظر إلى السماعة بذهول) 

طبعًا! أنتم تتصلون بنا منذ عشر دقائق! 

المتصل: 

لكن... أنا لم أتصل بعد! 

(صمت طويل. الشاشة تُظهر: "خطأ 404: المعنى غير موجود"). 

المشهد الثاني: 

(الموظف يحاول "إصلاح" الهاتف بطرق عبثية: يهزه، يضربه بقلم، ثم يصرخ فيه). 

الموظف: (بلهفة) 

هل ما زلت هناك؟ 

المتصل: 

نعم... لكنني لست متأكدًا من "أين"! 

(يبدأ الموظف بالضحك فجأة، ثم يبكي فجأة. الشاشة تُظهر: "شكرًا لثقتكم بنا!"). 

المشهد الثالث (النهاية): 

(الهاتف يرن مرة أخرى. الموظف يرفعه ببطء). 

المتصل: 

سؤال أخير... مَن أنا؟ 

الموظف: (ببرود) 

المهم هو رقم تذكرة الشكوى! 

(تُسمع ضحكات مسجلة من السماعة. الشاشة تنطفئ. الستارة تسقط فجأة). 

نهاية المسرحية. 

تحليل العبثية في النص: 

- الحوار الدائري: تكرار الأسئلة بلا إجابات. 

- تفكك اللغة: كلام غير منطقي ("لم أتصل بعد"). 

- السخرية السوداء: الشاشة تظهر رسائل إيجابية بينما الوضع كارثي. 

- اللامبالاة: ردود الموظف الروبوتية على أسئلة وجودية. 

 "المسرح العبثي يُظهر أننا نرقص على حافة الهاوية، لكننا نرتدي قبعات مهرجين." —

 إشارة إلى بيكيت.

ثانيا: مسرح ما بعد العبث وفلسفته

-اما مسرح ما بعد العبث (ما بعد الحداثة - أواخر القرن 20 إلى اليوم) مرجعيته الفلسفية هو تأثير فلسفة دريده التفكيكية وليوتار (نهاية السرديات الكبرى)، لكنه يرفض الاستسلام للعبث. وان موقف هذا المسرح من الواقع العبث موجود، لكن الفن يمكنه اختراع معنى مؤقت، عبر اللعب (بمعنى "play" و"game") وتفكيك الأنظمة لصنع أنظمة جديدة). وأبرز نصوصه: "الساعة الرملية" (المسرحية التي صغناها) – تحطيم العبث بالفعل وأعمال توم ستوبارد ("آركاديا") – مزج الفوضى بالجمال. 

     في التسعينيات كانت نقطة التحول، حيث بدأ مسرح ما بعد الحداثة (مثل أعمال سارة كين) بدمج العنف الجسدي مع الشعرية، ليقول: "نعم العالم قاسٍ، لكن الجمال ممكن رغم ذلك". وكانت ادواته الجديدة التكنولوجيا من خلالها تكون العروض للواقع الافتراضي سمحت للجمهور "بتغيير" الحبكة. وكسر الحاجز بين الممثلين والجمهور بشكل بنّاء (ليس للسخرية فقط). كما برزت انزياحات زمنية بتقديم الماضي والمستقبل في آن واحد كما في

 (The Curious Incident of the Dog in the Night-Time). 

وهنا نقدم مسرحية تطبيقية ما بعد العبثية قصيرة بعنوان: "الساعة الرملية" 

(كوميديا وجودية) 

الشخصيات: 

- سالم (عامل نظافة يرتدي بذلة فضائية مستعملة). 

- ليلى (طفلة تحمل دمية بلا وجه). 

- الساعة الرملية (جسم متحرك على المسرح، يصدر صوت رمل متساقط). 

المشهد: الاول

(غرفة انتظار بلا أبواب، جدرانها مغطاة بلوحات رسمها أطفال. في الوسط، ساعة رملية ضخمة تتحرك يمينًا ويسارًا كبندول. سالم يمسح الأرض بنشاط، بينما ليلى تجلس على كرسي هزاز).

ليلى: (تحدق في الساعة) 

هل ننتظر القطار؟ 

سالم: (يتوقف عن الكنس) 

لا يوجد قطار هنا منذ مئة عام. 

ليلى: (تُقلب الدمية رأسًا على عقب) 

إذن لماذا ننتظر؟ 

سالم: (يضحك) 

لأن أحدًا أخبرنا أن الانتظار "واجب". 

(تسقط حفنة رمل من الساعة فجأة. ليلى تلتقطها وتنفخها في الهواء. الرمل يتشكل كلمة "لماذا؟" لثانية ثم يختفي). 

ليلى: (تمسك يد سالم) 

ماذا لو كسرنا الساعة؟ 

سالم: (ينظر إلى عصا الكنس) 

ممنوع. القوانين تقول: "الساعة يجب أن تبقى". 

ليلى: (تقفز على الكرسي) 

لكن القوانين كتبها أناس لم يلعبوا بالرمل أبدًا! 

(يصمتان. ثم فجأة، يبدأ سالم بضرب الساعة بعصا الكنس. ليلى ترمي الدمية لتسقط داخل الساعة. صوت الرمل يتوقف. الضوء يخفت. ثم يعود فجأة بألوان زاهية). 

الساعة الرملية: (صوت آلة قديمة) 

"الوقت انتهى. ابدأوا اللعبة من جديد". 

(تسقط الساعة على الأرض ولا تنكسر. تصبح بركة رمل. ليلى وسالم يجلسان ويبدآن في بناء قلعة. الدمية تظهر على جدار الغرفة كظل يرقص). 

النهاية. 

المشهد الثاني: "الدمية تتكلم" 

(بعد انهيار الساعة الرملية، تظهر الدمية على حافة البركة الرملية. صوتها يشبه صوت طفلة مسجلة مسبقًا). 

الدمية: (بلا حركة) 

"أخيرًا.. حررتموني من لعبة الانتظار. 

سالم: (يتراجع للخلف) 

لكن.. أنت مجرد دمية! 

ليلى: (تمسكها بفضول) 

كلنا كنا دمى. حتى الساعة كانت دمية. 

(فجأة، تبدأ جدران الغرفة بالاهتزاز. تظهر عليها رسومات الأطفال تتحرك: 

- شمس تبتسم 

- قطة ترتدي قبعة 

- ساعة بلا أرقام) 

الدمية: (بصوت أكثر عمقًا) 

"الآن، اختاروا: 

إما أن تعيدوا بناء الساعة... 

أو تبنوا شيئًا لا يوجد له اسم. 

(يصمت الجميع. المشهد يتجمد). 

المشهد الثالث: "ما بعد الساعة 

(الضوء يصبح أزرق. سالم وليلى يجلسان وسط الرمل. الدمية صامتة الآن). 

ليلى: (تحفر في الرمل) 

أبحث عن جذر الساعة. 

سالم: (يقلب كفّه) 

ربما ليس لها جذر. ربما هي كالرمل.. تأتي من لا مكان. 

(تظهر أصوات جمهور غير مرئي تُهمس: أنتم حرّاس الوقت الآن!). 

ليلى: (تقف فجأة) 

لا أريد أن أكون حارسة! أريد أن أكون.. 

سالم: (يقطعها) 

مخترعة؟ 

ليلى: (تضحك) 

لا! أريد أن أكون "تلميذة رمل. 

(يبدأ الرمل بالارتفاع حولهما كأمواج. الدمية تذوب في الرمل. الأصوات تختفي. يظهر ظل عملاق لساعة رملية جديدة على الجدار، لكنها مقلوبة رأسًا على عقب). 

النهاية الجديدة: 

(المشهد الأخير يُظهر ليلى وسالم يغرقان في الرمل حتى الركبتين، لكنهما يبتسمان بينما يرميان الرمل إلى الأعلى كالألعاب النارية). 

تحليل عناصر ما بعد العبث في المسرحية: 

1. تحطيم العبث بالفعل: بدلًا من انتظار "غودو"، الشخصيات تخلق معناها الخاص (اللعب بالرمل). 

2. الكوميديا السوداء: الحوارات الساخرة عن القوانين والانتظار. 

3. الرمزية المفتوحة: الساعة تمثل الزمن المفروض، والرمل هو المادة الخام لصنع معنى جديد. 

4. النهاية الإيجابية: لا حلّ سحريًا، لكن هناك مساحة للإبداع. 

5. المشهد الثاني: يسخر من فكرة "التحرر الوهمي (حتى الدمية كانت جزءًا من النظام). 

6. المشهد الثالث: يطرح بديلاً شاعريًا - أن نتعلم من الفوضى بدل السيطرة عليها. 

7. الرمزية الجديدة: 

   - الرمل كـ"مادة الحياة" التي يمكن تشكيلها. 

   - الظل المقلوب للساعة: اقتراح لعالم جديد بمنطق مختلف.

 كيف يمكن تطوير هذه المسرحية في ورشة عمل؟ 

1. تمرين "كسر القواعد": يختار المشاركون شيئًا مقدسًا في النص (مثل الساعة) ويغيرون مصيره. 

2. لعبة "ماذا لو؟": ماذا لو كانت ليلى ترفض لمس الرمل؟ ماذا لو كان سالم يخاف من الدمية؟ 

3. التفاعل مع الجمهور: يُطلب منهم اقتراح أشياء أخرى يمكن بناؤها من الرمل غير القلعة.

ثالثا: المقارنة بين مسرح العبث وبين مسرح ما بعد العبث

المحور

مسرح العبث

مسرح ما بعد العبث

المعنى

 الحياة بلا معنى (كامو).

المعنى يُخترع عبر الفعل (فوكو).     

اللغة

تتحول إلى ثرثرة فارغة (يونيسكو). 

لغة مرنة، قابلة لإعادة التشكيل.     

الزمن  

زمن متكرر بلا تقدم (بيكيت).      

زمن غير خطي، يُمكن إعادة تشكيله

الجمهور

يشهد العبث بلا حل

شريك في صنع المعنى (بريخت)

النهاية

يأس أو جمود

سؤال مفتوح أو فعل تغييري

رابعا: (بين مزاوجة المثالية والواقعية ورحلة البحث عن المعنى الإنساني)

مقدمة

المزاوجة بين المثالية والواقعية: ضرورة إنسانية

إن الموازنة بين المثالية والواقعية ليست تناقضًا، بل تكاملًا مطلوبًا. المثالية توفر الحلم، الطموح، والمعنى الذي يدفع الإنسان للسعي نحو الأفضل، بينما الواقعية تكفل الأرضية الثابتة التي تتيح الفهم الموضوعي والتعامل العملي مع الحياة. المسرح، بحكم كونه مرآة المجتمع، يستطيع أن يعكس هذا التوتر البنّاء بين الحلم والواقع، مشجعًا الجمهور والمبدعين على تجاوز الانغلاق الفكري والعبثية المفرطة التي قد تؤدي إلى القنوط.

نقد فلسفة كامو والبحث عن معنى أكثر إنسانية

كامو أكد على اللامعنى والعبث، ودعا إلى قبول هذا الواقع دون الاستسلام لليأس، لكنه في تركيزه على فكرة العبث حدّ التمركز حول الذات والبحث عن "الثورة الداخلية" الفردية. هذا الطرح، رغم عظمته، لا يكفي وحده لتحريك مجتمعات تواجه تحديات معقدة تتطلب أكثر من مقاومة داخلية، بل أيضًا رؤية عملية للتغيير الاجتماعي والإنساني. هنا يبرز دور المسرح العبثي في دعوة الإنسان إلى التفاعل الواقعي، من خلال إعادة صياغة القصص، وتجسيد المزاوجة بين الحلم والواقع، بين الأسئلة والجوابات، وبذلك يقدم أداة حية للتعبير عن أزمات الإنسان المعاصر وأماله.

المسرح كمنصة للتجربة الإنسانية

كتابة المسرحيات التي تجمع بين المثالية والواقعية تتيح مساحة حوار حقيقي بين الشخصيات المتنوعة، التي تمثل تيارات الفكر المختلفة: الفلسفة، القانون، علم النفس، الفن، والدين. هذه الحوارات لا تستكشف فقط الأسئلة الوجودية، بل تمكّن من الكشف عن نقاط الاشتباك التي تصنع واقعنا الاجتماعي والنفسي، وتحفز التفكير النقدي والإبداعي. من خلال مشاهد متشابكة، يمكن للدراما أن تطرح تساؤلات عميقة حول المسؤولية، العدالة، الشفقة، والمعنى، مؤكدًا أن الإنسان ليس مجرد متلقي لمآسيه، بل فاعل قادر على خلق معنى خاص به.

خاتمة

   في زمن يختلط فيه الواقع بالخيال، ويعاني فيه الإنسان من التناقضات والقلق، لا يمكن للمسرح العبثي أن يظل في إطار التشخيص السلبي للعبثية فقط. بل عليه أن يتحول إلى منصة تحفيز تجمع بين المثالية والواقعية، تمنح الإنسان فرصة البحث عن معنى أكثر إنسانية، وتحثه على اتخاذ موقف فاعل من حياته. هذه المزجية الفكرية لا ترفض الأسئلة العميقة، لكنها تدعو إلى العمل، الإبداع، والأمل.

بهذا يمكن أن نعتبر المسرح العبثي وجوبًا ضروريًا لكتابة مسرحيات تعبّر عن صراعات الإنسان الحديث، وتقدم له مرآة تحاكي ذاته، وتحفزه على تجاوز العبث إلى بناء مستقبل إنساني أفضل.

    المسرح العبثي يعكس في جوهره صراعات الإنسان مع اللامعقول، لكنه لا يجب أن يُفهم كدعوة للاستسلام أو الانعزال او الاجترار. ففي عالمنا المتصارع فكريًا وبراغماتيًا، من الضروري المزاوجة بين الفكر المثالي، الذي يحمل الأمل والرغبة في التغيير، وبين الفكر الواقعي، الذي يعترف بالقيود والظروف الموضوعية. هذه المزاوجة تمثل الطريق الأمثل لتحقيق غايات إنسانية، تعزز من قيم الشفقة، التفاهم، والابتكار في التفكير.

خامسا: كيف نؤسس مسرح ما بعد العبث 

المسرح الجديد لا يخاف من الفوضى، بل يرقص معها، ثم يبني بيتًا من ركامها. نحو عصر مسرحي جديد: بين التمرد والبناء نبادر لاصدار البيان الفني لمسرح ما بعد العبث.. من العبث إلى الاختراع، ان مسرح العبث كشف زيف الوعي الزائف، ومسرح ما بعد العبث حوّل هذا الكشف إلى دعوة للفعل. الآن، مسرح ما بعد الحداثة يمكنه أن يكون مختبرًا للوجود الإنساني، حيث: 

- اللايقين ليس عائقًا، بل مساحة للعب. 

- الكوميديا ليست هروبًا، بل سلاحًا ضد اليأس. 

- التقنية ليست تهديدًا، بل أداة لتعميق الحوار.  

بيان مسرح ما بعد العبث

المقدمة: لماذا نحتاج إلى مسرح ما بعد العبث؟ 

لقد قام مسرح العبث بتفكيك الأوهام الكبرى للحضارة الحديثة—الدين، السياسة، العقلانية—لكنه ترك الإنسان في صحراء اللامعنى. مسرح ما بعد العبث لا يرفض هذا الإرث، بل يتحرّك إلى ما بعده: من التشخيص إلى العلاج، ومن السخرية إلى الخلق، ومن اليأس إلى التمرد الإيجابي. المسرح ليس مرآة للواقع، ولا هروبًا منه، بل هو مطرقة لتشكيل واقع جديد.

اللبنات الأساسية لمسرح ما بعد العبث 

1. من اللامعنى إلى صناعة المعنى 

- المبدأ: العبثية كشفت أن الحياة لا تحتوي على معنى جاهز، لكن هذا لا يعني أنها فارغة. بل المعنى يُخلق عبر الفعل والإرادة. 

 - التطبيق المسرحي: 

  - نهايات مفتوحة تطرح أسئلة بدلًا من إغلاقها (مثل: شخصية تقرر بناء بيت رغم معرفتها أنه قد ينهار). 

  - حوارات تدعو إلى الفعل، وليس إلى التجمّد في السخرية (مثل: "لماذا ننتظر غودو؟ لنصنع غودونا بأنفسنا!"). 

2. الكوميديا كجسر نحو الجدّية 

- المبدأ: السخرية يجب أن تكون أداة لتفكيك الأوهام، وليس غاية في حد ذاتها. 

- التطبيق المسرحي: 

  - مشاهد هزلية تُظهر عبثية الواقع، لكنها تُتبَع بفعل تغييري (مثل: موظف يضحك على بيروقراطية النظام، ثم يُقدِم على تحطيم آلة الطباعة كرمز للتمرد). 

  - شخصيات مُضحكة في مأساتها تتحول إلى رموز للمقاومة (كمهرج يكتشف أن دميته تمتلك وعيًا، فيقرر تحريرها). 

3. المزج بين الواقعية والسريالية 

- المبدأ: الواقع فوضوي، لكن الفن يمكن أن يخلق نموذجًا مصغرًا لنظام بديل. 

- التطبيق المسرحي: 

  - عوالم مسرحية تبدو سريالية (مثل: مدينة بلا جاذبية)، لكنها تعكس مشكلات واقعية (كالتفكك الاجتماعي). 

  - رموز مرئية (مثل: جدار من الورق، ساعة تتحرك للخلف) لتجسيد فكرة "التغيير الممكن. 

4. الجمهور شريك في الخلق 

- المبدأ: المسرح ليس عرضًا، بل حوارًا. الجمهور يجب أن يُترك مع سؤال أو تحدٍّ. 

- التطبيق المسرحي: 

  - كسر الجدار الرابع بطريقة بنّاءة (مثل: ممثل يوزع بذورًا على الجمهور في نهاية المسرحية كرمز للزرع). 

  - عروض تفاعلية حيث يُطلب من الجمهور اتخاذ قرارات تغيّر مسار الأحداث. 

5. من الوجودية الفردية إلى الوجودية الجماعية 

- المبدأ: العبثية ركزت على الفرد المنعزل، أما ما بعد العبث فتؤكد على صناعة المعنى معًا.  

- التطبيق المسرحي: 

  - أعمال تركّز على التضامن في مواجهة العبث (مثل: مجموعة غرباء يتعاونون لبناء قارب وسط فيضان، رغم معرفتهم أنه قد لا ينقذهم). 

  - شخصيات تكتشف أن الحرية الحقيقية هي تحرير الآخرين (كمأسور يحرر سجينًا آخر بدلًا من الهرب وحده). 

نماذج مقترحة لأعمال ما بعد عبثية 

1. الخريطة الممزقة: مسرحية عن رحالة يفقد خريطته في الصحراء، فيقرر رسم خريطة جديدة بمساعدة أشباح الماضي. 

2. آخر عامل في المصنع: كوميديا سوداء عن عامل يكتشف أن المصنع فارغ منذ سنوات، فيحوّله إلى حديقة عامة. 

3. مؤتمر اللاجئين: سخرية من البيروقراطية العالمية، لكنها تنتهي بتأسيس برلمان بديل تحت خيمة. 

كيف نعمّم هذا المشروع؟ 

1. إصدار بيان مكتوب بلغات متعددة، مع دعوة نقاد ومفكرين للمناقشة. 

2. ورش عمل مسرحية لتجريب نصوص ما بعد عبثية مع فرق مستقلة. 

3. إنشاء منصة رقمية تجمع نصوصًا وفيديوهات توضيحية لهذا التيار. 

مسرح ما بعد العبث هو مسرح الحياة ذاتها: يعترف بالفوضى، لكنه يرفض أن يكون ضحيتها. 

البيان الموسع لمسرح ما بعد العبث: نحو إنسانية مُتَنَاغِمَة.. رؤية شاملة لمسرح يخدم العقل البشري ويُعيد تشكيل الواقع:

تمهيد: من الوجود إلى الازدهار 

إذا كان مسرح العبث قد قال: الحياة بلا معنى، ومسرح ما بعد العبث أجاب: إذن لنصنع معنى، فإن المرحلة التالية هي: كيف نعيش بانسجام مع هذا المعنى المُخْتَرَق؟. هذا البيان يُوسع المشروع ليشمل أبعادًا اجتماعية، سياسية، وإيكولوجية، مع الحفاظ على الجوهر الفني الثوري. 

الأركان الجديدة للمشروع 

1. مسرح الرفاهية الإنسانية 

- المبدأ: تحويل العبث من أداة سخرية إلى دافع لبناء عالم خالٍ من العنف والاضطهاد. 

- التطبيقات: 

  - نصوص تُجسِّد اليوتوبيا العملية: مثل مسرحية عن قرية ترفض الحرب رغم وجود جيش على حدودها، وتُبدع طرقًا للسلم (مثل تحويل الأسلحة إلى منحوتات). 

  - شخصيات الخيِّر العبثي: كطبيب يُعالج مرضى بلا دواء بالضحك، أو سياسي يوزع السلطة بالقرعة. 

2. العبثية البيئية (الإيكولوجية) 

- المبدأ: إذا كان العبث يعكس انفصال الإنسان عن الكون، فما بعد العبث تطرح إعادة الاندماج مع الطبيعة. 

- التطبيقات: 

  - عروض تُقام في أماكن مهجورة (مصانع، غابات محترقة) كفنٍّ ترميمي. 

  - مسرحية حديقة النهاية: حيث شخصيات تعتني بنباتات في يوم القيامة، كرمز لاستمرار الحياة. 

3. التماهي مع اللامعنى عبر الفن التفاعلي 

- المبدأ: تحويل الجمهور من مشاهد إلى شريك في صنع المعنى. 

- التطبيقات: 

  - مسرح الواقع الافتراضي العبثي: حيث يتفاعل المشاهد مع شخصيات لا منطقية ليكتشف بنفسه حدود العقل. 

  - عروض الشارع: حيث يُدعى الجمهور لكتابة نهاية العمل على أوراق تُعلَّق على جدار المسرح. 

4. مسرح اللاعنف والعدالة 

- المبدأ: استخدام السخرية لنزع سلاح الظالمين. 

- التطبيقات: 

  - محاكمة ديكتاتور: كوميديا سوداء حيث يتقمص الجمهور أدوار القضاة، بينما المتهم (دمية) يكرر كلمات فارغة. 

  - مكتب الشكاوى الكوني: مسرحية عن موظف يستقبل شكاوى من الحيوانات والأشجار ضد البشر. 

نماذج أعمال رائدة 

1. بنك السعادة: 

   - كوميديا عن مصرف يُقرض الناس دقائق فرح بدل المال، ويكتشف أن الاقتصاد الحقيقي هو المشاعر. 

2. أوبرا القمامة: 

   - عرض موسيقي تُصنع أدواته من النفايات، كتأمل في إعادة تدوير المعنى نفسه. 

3. مدرسة اللاعقل: 

   - مسرحية عن طلاب يتعلمون كيف ينسجمون مع الفوضى، فيُدرِّس لهم المهرجون والفنانون. 

آليات تعميم المشروع 

أكاديميًّا: 

- إدراج مسرح ما بعد العبث كمادة دراسية في كليات الفنون، مع التركيز على الجمع بين الفلسفة والممارسة المسرحية. 

مجتمعيًّا: 

- مهرجانات متنقلة في المناطق المهمشة، تُقدّم عروضًا تُنهيها بحلقات حوار عن "كيف نصنع معنى جماعيًا. 

تقنيًّا: 

- تطوير منصة رقمية تسمح للمستخدمين بإنشاء نصوصهم التفاعلية وفق فلسفة ما بعد العبث. 

سياسيًّا: 

- الضغط على الحكومات لتبني مسرح مجاني في الساحات العامة كحق إنساني. 

الخاتمة: الإنسان هو الجواب 

مسرح ما بعد العبث ليس حركة فنية فحسب، بل إعلان وجودي: 

- نعم، العالم فوضوي. 

- نعم، الأنظمة قمعية. 

- لكننا قادرون على اختراع الفرح، وتجميل المقاومة، وتحويل العبث إلى موسيقى. 

 المسرح الجديد لا يُظهر القبح كي نيأس، بل يُضيء الفوضى كي نُبدع فيها.

-  وأخيرا اختم مع هذه الكلمات من بيكيت التي نعيد صياغتها معًا (حاولت. فشلت. لا مشكلة. حاول مرة أخرى. أخفق بشكل أفضل ... (ونحن سنُضيف: ثم نغيّر القواعد!

البيان الختامي. 

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية