المسرح بين الدعم والتحديات: قراءة في الإيجابيات والسلبيات

 

المسرح بين الدعم والتحديات: قراءة في الإيجابيات والسلبيات

يُعد المسرح واحدًا من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان، وهو ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل منصة للتعبير عن القضايا الإنسانية والاجتماعية والفكرية. ومع مرور الزمن، واجه المسرح تحديات كثيرة جعلت مكانته تتراجع مقارنة بفنون أخرى كالرواية والسينما. ومع تزايد الدعوات لدعمه، تبرز الحاجة إلى تقييم موضوعي لما يحمله هذا الدعم من إيجابيات وسلبيات.

أولاً: إيجابيات دعم المسرح

1.  تعزيز الوعي الثقافي والاجتماعي
المسرح يقدّم قضايا الناس بصورة مباشرة وبأسلوب حيّ، مما يعزز وعي الجمهور تجاه مشكلاته السياسية والاجتماعية والنفسية.

2.  توفير مساحة للتعبير الحر
المسرح يُعد منبرًا للحرية، حيث يمكن طرح موضوعات حساسة بطريقة فنية راقية، بعيدًا عن الرقابة المباشرة أو المنابر الصدامية.

3.  تحفيز الإبداع والطاقات الشبابية
دعم المسرح يخلق فرصًا للكتّاب، والمخرجين، والممثلين الشباب، ما يساهم في بناء جيل جديد من المبدعين.

4.  إحياء الفنون التربوية والتعليمية
إدخال المسرح إلى المدارس والجامعات يثري العملية التعليمية ويشجع الطلبة على التفكير النقدي، والعمل الجماعي، وتقدير الفن.

5.  تنشيط الاقتصاد الثقافي المحلي
دعم العروض المسرحية يساهم في تحريك سوق الفنون، ويوفر فرص عمل لمجموعة من الفنيين، من الديكور إلى الإضاءة والصوت وغيرها.

ثانيًا: سلبيات محتملة لدعم المسرح

1.  دعم غير مدروس يؤدي إلى هدر الموارد
في حال غياب معايير الجودة، قد يُوجه الدعم إلى عروض هابطة أو جهات غير مؤهلة، مما يفقد المشروع جدواه.

2.  تحول المسرح إلى أداة للدعاية أو التوجيه الرسمي
في بعض الأنظمة، يُستخدم دعم الدولة للمسرح كوسيلة لتمرير خطاب رسمي، مما يفرغه من محتواه النقدي الحر.

3.  التصادم مع قيم مجتمعية محافظة
قد يُواجه المسرح المدعوم، خاصة إذا تناول قضايا جريئة، رفضًا مجتمعيًا بدافع العادات أو الدين أو الأعراف، مما يحد من انتشاره.

4.  محدودية جمهور المسرح في العصر الرقمي
حتى مع توفر الدعم، يظل المسرح يعاني من ضعف الإقبال مقارنة بالفنون السمعية البصرية، ما يطرح تساؤلات حول جدوى الاستثمارات الكبيرة فيه.

خاتمة

دعم المسرح مشروع نبيل وضروري، لكنه بحاجة إلى رؤية متكاملة تضمن التوازن بين الشكل والمضمون، وبين الحرية والمسؤولية، وبين الفن والجمهور. فالمسرح ليس ترفًا، بل أحد أعمدة الوعي الجمعي والنهضة الثقافية. وحين يُدار بذكاء واحتراف، يصبح أداة فاعلة في بناء الإنسان والمجتمع ويُعد ردًا رصينًا ومتوازنًا على أولئك الذين يتصدّون للمسرح أو يقلّلون من شأنه، ويُعيد الاعتبار للفكرة التي عبّر عنها يون فوسه في اقتباسه، حين قال إن المسرح يمنح الإنسان شعورًا بعدم الوحدة، ويُشاركه التجربة مع آخرين. فالمقال لا يقدّم المسرح بوصفه "مقدّسًا" لا يُنتقد، بل يعرض إيجابياته العميقة، ويعترف بسلبياته الواقعية، ما يُعطي الردّ قوة الحجة لا الانفعال. وفي ضوء ما قاله فوسه، يمكن القول إن دعم المسرح لا يعني فقط تمويل العروض، بل يعني الإيمان بأن هناك حاجة بشرية وفنية إلى مكان نتأمل فيه الألم والمعنى معًا، وسط جماعة تشاركنا الوجودوهذا ما لا تمنحه الرواية أو الشاشة بنفس الطريقة.

   في هذا السياق، ينسجم ما قاله الكاتب المسرحي النرويجي يون فوسهالحائز على جائزة نوبل في الأدب 2023—مع جوهر ما ندعو إليه. فقد عبّر عن إيمانه بأن "المسرح يمكن أن يكون مكاناً نشعر فيه بأننا لسنا وحدنا. مكاناً يمكننا فيه تجربة ما هو صعب، ما هو مؤلم، ولكن مع شعور بأن هناك آخرين يشاركوننا هذا". وهذا التصور يمنح المسرح معنى وجوديًا يتجاوز التسلية، ليصبح مساحة إنسانية حميمية تُلطف من قسوة الحياة، وتفتح بابًا للتعاطف والمشاركة. إن دعم المسرح الحقيقي لا يُقاس فقط بعدد المقاعد أو الميزانيات، بل بقدرتنا على صون تلك اللحظة الإنسانية المشتركة التي أشار إليها فوسه؛ لحظة نُدرك فيها أننا لسنا وحدنا، وأن المعنى لا يُخلق إلا حين نتقاسمه مع الآخرين، على خشبة مضاءة، في صمتٍ مليء بالحياة.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية