المسرحية: "ظلّ في الممرّ"

 

 

مقدمة المسرحية: "ظلّ في الممرّ"

بقلم عدنان الطائي

في عالمٍ ينهشه الصمت، ويعلو فيه صدى الانتظار على ضجيج الحضور، تنبثق هذه المسرحية العبثية بثلاثة فصول لتكشف عن أحد أكثر الأماكن التي تتقاطع فيها الحقائق والمجازات: دار المسنين ((Estia Health

    في هذا المكان، تتقاطع حكايات "سليم" و"أمينة" لا على مستوى الوقائع فقط، بل على مستوى المعنى. فكلاهما جُرّد من الدور الطبيعي في دورة الحياة — دور الأب والأم — واستُبدل حضورهما الرمزي بحالة من الإهمال، والنكران، والانتظار العقيم. هنا، لا تنقل المسرحية خطابًا أخلاقيًا مباشرًا، بل تتخذ من العبث قالبًا لتصوير ضياع المعنى في العلاقات الإنسانية، وانهيار التواصل حين تغدو العائلة مجازًا غائبًا، وتتحول الحياة إلى سلسلة من التساؤلات التي لا تجد أجوبة.

    تُبرز المسرحية ـــ بروح بيكيتية ويونسكية ـــ خيوط التكرار، والركود، والارتباك، لتُجسّد هشاشة الإنسان حين يُسحب منه جوهره العاطفي، ويُستبدل بعجلات الروتين المؤسسي. هي ليست حكاية شخصين فقط، بل مرآة لأزمنة كاملة تتعامل مع الشيخوخة كعبء، لا كذاكرة حيّة. ومع كل فصل، تتآكل الكلمات، وتبهت الهويات، لتبقى فقط الأصوات الداخلية، والظلّ في الممرّ… ذلك الذي لا يُغادر، ولا يُستَقبَل. هذه المسرحية ليست لانتزاع التعاطف، بل لتعرية السطح، والسخرية من واقعٍ استبدل "البيت" بالمؤسسة، و"الحب" بالواجب، و"الابن" بالمجهول. في النهاية، لا أحد يغادر المشهد… فقط الكلمات تنكسر. 

كلمة المخرج:

"في هذا العمل، لم نبحث عن إجابات، بل عن صدق الأسئلة. لم نردّ الظلم بكلماتٍ مباشرة، بل بفراغٍ متعمد. لم نعرض الحكاية، بل تركناها تتساقط مثل أوراق الخريف في الممرّات الطويلة لدارٍ نسيت الحياة كيف تنطق فيه." حين تتقمص العبثية دورها في هذا النص، فهي لا تفعل ذلك لترفٍ فكري، بل لأنها المرآة الوحيدة القادرة على عكس المأساة من دون أن تضع عليها مساحيق. في "ظلّ في الممرّ"، جعلنا الكراسي تتكلم، والفراغات تُفكّر، والأصوات تُعيد قول الشيء ذاته عشرات المرات… ليس لأننا نحب التكرار، بل لأن الزمن توقف، والقلوب تُركت معلّقة. أهدي هذا العمل لكل روحٍ لا تزال تنتظر بابًا يُطرق

- المخرج

كلمة إرشادية للممثلين:

 أنتم لا تمثلون شخصيات عادية. أنتم ظلال لذكرياتٍ تُركت خلف النوافذ. تحرّكوا كما لو أنكم لا تعلمون إن كان هناك غد. تحدّثوا وكأن الكلام لا يحمل معنى، لكن خلف كل جملة، هناك حياة كاملة محبوسة. لا تخافوا من الصمت، فهو اللغة الأولى في هذا النص. تذكّروا: في المسرح العبثي، لا تُجسّدون من يعيش… بل من كان حيًّا، ونُسي. العبث ليس فوضى، بل نظام دقيق لعرض الخراب. قفوا في أماكنكم كأنكم لا تعرفون لماذا وُجدتم هناك. انظروا إلى بعضكم كما لو أنكم لم تلتقوا من قبل، وكرروا أسماءكم كما لو أنكم تحاولون إثبات وجودكم. فهذه المسرحية… لا تُعرض لتُفهم، بل لتُحس.

"ظلّ في الممرّ

مسرحية قصيرة عبثية بثلاث مشاهد– تأليف: عدنان الطائي

الشخصيات:

  • سليم: عجوز يبحث عن معنى لوجوده.
  • أمينة: عجوز تتكلم ولا تسمع نفسها.
  • سامي: ممرض، قد يكون حقيقيًا أو وهميًا.
  • سارة: موظفة تخرج وتدخل دون سبب.
  • الابن (شبح): لا يتكلم، يمر فقط.

المشهد الأول: غرفة رقم (13) – دار رعاية (النافذة مفتوحة على لا شيء)

) سليم يجلس أمام نافذة بلا زجاج. يحدّق إلى الخارج، حيث لا شيء سوى كرسي قلوب.. ضوء خافت يضيء زاوية الغرفة فقط. كرسي هزّاز، نافذة مفتوحة نصفها، طاولة عليها صورة قديمة. يجلس "سليم" بصمت ينظر إلى الخارج. تتساقط أوراق شجرة وهمية من السقف)

سليم: يحدّث نفسه): في الخارج)

- الخريف يسعل.. وفي الداخل، قلبي يسكت.  هل مرّ؟
)
يصمت، ثم يكرر (
- هل مرّ؟ هل أنا من مرّ؟ أم أنه أنا الذي لم يمرّ؟

) يدخل صوت من العدم - بلا جسد)

 الصوت:
- لا أحد يأتي، لا أحد يذهب… لا شيء يحدث، إنه أمر مدهش!

) صوت صرير باب، تدخل ممرضة بلا ملامح، تقدم له الدواء)

سليم:
 - هذا ابني في الصورة... كان يحمل حقيبةً، ويمشي كأنه لا يحتاج الأرض. غاب منذ سنوات في بلادٍ تشبه الصمت... لم نطلب منه شيئًا، فقط كلمة. صورة. صوت.

الصوت الداخلي (بيكيت )

- نولد ميتين، والباقي تفاصيل.

 ) إضاءة باهتة، يسقط سليم في صمته، ويكتب شيئًا على ورقة ويضعها تحت الوسادة.

 أمينة تدخل عكس الجاذبية، تمشي إلى الوراء، تتجه نحوه، تجلس على كرسي فارغ، ثم تنهض وتقف عليه. (

أمينة:
- أنا أنجبُ أربع مرات، أربع مرات أنجبُ اللاشيء.. خرجوا مني ولم يخرجوا إليّ. هل أنا أمّ.. أم ممر ولادة إلى الغياب؟

سليم:
- أنا أبٌ لصوت لا أذكر نبرته ربّما كنتُ أنا ابني، ونسيت أن أزورني.

) يدخل سامي يجرّ ساعة دون عقارب، يعلّقها على الحائط المائل. (

سامي:
- جئتُ لأعطيكم موعدًا بلا وقت. الشاي يُقدَّم غدًا، والغدُ في الأمس.

أمينة (تضحك):
- الغدُ رجل، أليس كذلك؟ يواعد ولا يأتي.

سليم (ينهض فجأة):
- سأذهب
)
يتجه إلى الجدار ويصطدم به (
ها قد وصلت.

) الضوء يخفت ثم يشتعل فجأة. كل شيء يعود إلى البداية. 

المشهد الثاني: الحديقة – ظهيرة ساكنة

) كرسي متحرك، تجلس عليه "أمينة". عيناها تتبعان طيرًا غير موجود. يدخل "سامي" الممرض الشاب ومعه طبق طعام بخار يتصاعد منه، لكنه يتلاشى فورًا.. المكان كما هو، لكن الكرسي المقلوب خارج النافذة صار طفلًا يبكي بصوت قَط. (

أمينة:
- ما أطول الانتظار حين لا أحد ينتظرُك...

سليم (بنبرة جديدة):
- أنا لا أنتظر… أنا أراقب الانتظار ينتظرني.

أمينة:
- أولادي قالوا: "نراك لاحقًا لكني سبقتُ اللاحق.

ثم سامي بتسم)
- كيف حالك اليوم يا أمينة؟

أمينة:
- أفضل بقليل من لا شيء... كنت أحتاج زيارة من أولادي، لكن يبدو أن الوقت مشغول بهم أكثر مني.

الصوت الداخلي (يونسكو):
- لقد فقدنا المعنى، أو ربما المعنى هو ما فقدنا نحن.

أمينة (ببطء:(
- هنا يعاملونني كإنسانة... هناك كنت شيئًا من الأثاث، يُنقل، يُركن، ثم يُنسى.

) تدخل سارة وهي ترتدي وجه أمينة، تتكلم بصوت سامي. (

سارة (بصوت سامي):
- العائلة؟ إنها مثل باب دائري… تدخله فلا تخرج، أو تخرج منه قبل أن تدخله.

سليم (يصفق):
ها نحن نمثل!
)
يصمت(
- لكن من الجمهور؟ من يرانا؟

) الابن يمر من خلف النافذة، يجر نفسه كدُمية خيط. (

أمينة:
ذلك شبح اسمه "ابني". أراه كل يوم ولا يلاحظني. لو لمحني… لربما كنتُ أنا!

سليم:
- سيمرّ غدًا، أو لن يمرّ أبدًا. نحن العالقون بين عبورٍ لم يحدث ووداع لم يتم.

) سامي يدخل وهو يرتدي ساعة ضخمة بدل الرأس. (

سامي:
- انتهى الوقت… لم يبدأ بعد.

) الضوء ينطفئ تدريجيًا. نسمع بكاء الكرسي من جديد. الستار يسدل، دون ختام. (

المشهد الثالث: غرفة الانتظار (بلا أبواب). تقاطع الذاكرة والنسيان.. المكان بلا مكان، ضوء أزرق متذبذب. سليم وأمينة يجلسان على كراسي فارغة شفافة. صمت طويل. ثم تنهيدة. ثم نباح كلب لا يُرى.. الزمن: كما كان، كما سيكون، كما لم يكن.. المسرح نصف مظلم. سليم وأمينة يجلسان على مقعدين متقابلين، بينهما طاولة تحوي كوبًا بلا قاع وساعة تدور للخلف. يُسمع صوت "نقرة خفيفة" كأن أحدًا يطلب الإذن للدخول، ولكن لا أحد يدخل.

سليم:
- كتبت له... قلت: لا أحملك ذنب الغياب، بل أحمل قلبي لأنه صدّق أن الحب وحده يكفي...

أمينة:
- أحيانًا أشك أنني كنت أمًا حقًّا... ربما كنتُ ظلًّا مرّ بسرعة.

الصوت الداخلي (هارولد بنت):
- الصمت هو ذلك الصوت العالي الذي لا يفهمه أحد.

 سليم (بهمس عالٍ):
- سمعت؟ الزائر الذي لا يزور... طرق الباب.

أمينة:
- هو كلهم. الأبناء، الذاكرة، الموت... كلهم يطرقون ولا يدخلون. ربما نحن في الداخل وهم في الخارج...
أو ربما لا بيت أصلاً!

) يدخل سامي وهو يحمل مرآة مغطاة بقماش أسود. (

سامي:
- أحمل لكم الحقيقة... لكنها لا تريد أن تُرى.

سليم:
- هل هي جميلة؟ الحقيقة؟

سامي:
- جميلة كالعدم.
)
يزيح الغطاء، لكن لا شيء يظهر في المرآة – انعكاسهم غائب. (

أمينة (مرتبكة):
- أين ذهبتُ؟ هل خرجتُ دون أن أستأذن منّي؟

) تدخل سارة بثوب الزفاف، تتقدم بخطى بطيئة إلى سليم، تقدم له علبة صغيرة. (

سارة:
- هدية من ابنك.

سليم (بلهفة):
- أخيرًا؟
)
يفتح العلبة. يجد زرًا بلا قميص. (

سليم:
- ترك لي زرًا لكنه نزعني من القماش.

أمينة (تضحك بدموع):
- أنت الآن حر، بلا قميص، بلا انتماء!

) يدق جرس بلا مصدر، يدخل رجل يرتدي قناعًا بوجه ساعة تدور عقاربها عكس
 الزمن
(

الرجل:
- الوقت انتهى... أو لم يبدأ أصلًا. لا فارق.

سليم:
- انتظرناكم كثيرًا...

الرجل:
غودو لا يزور دور الرعاية.

) الأنوار تبهت، الزهور تنمو من الأرض، أصوات أطفال تضحك في الخلفية، ثم سكون تام ... تتغير الإضاءة فجأة، يتحوّل المكان إلى ما يشبه محطة انتظار: علامة مكتوب عليها "العودة مؤجلة حتى إشعار آخر. (

سامي (يردد):
- أيها المسافرون إلى اللامكان... القطار لا يتأخر، إنه فقط لا يصل.

) الابن يظهر كظل كبير على الجدار، لا يتحرك.)

سليم (يقف ويخاطب الظل):
- سامحني...
)
يصمت(
- أم أنك أنت الذي يجب أن تعتذر؟

) لا رد. الظل يتلاشى تدريجيًا. ثم صوت خارجي ناعم، كما لو من السماء)
الصوت:
"-
انتهى المشهد. يمكنكم الانتظار مجددًا."

) سليم ينظر إلى الجمهور، يبتسم ابتسامة شاردة. (

سليم:
- أظننا كنا نؤدي مشهدًا ما… أو أن الحياة كانت هي المسرحية، ونحن ننتظر التصفيق منذ الولادة.

) الضوء يخفت تدريجيًا حتى الظلام الكامل. ثم صوت كرسي يُقلب من جديد. (

الخاتمة (على ستارة المسرح):

"في مكان لا زمان له، يجلس من كانوا ذات يوم مركز العالم، الآن هم الظلّ والانتظار، هم صدى الحبّ الغائب، والموت المؤجل… هذا ليس مكانًا للنهاية، بل سردابًا للأسئلة."– مستلهم من المسرح العبثي.

 الستار.

ملاحظات إضافية للمشهد:

  • هذا المشهد يُعمّق الطابع العبثي من خلال مرآة لا تعكس، علبة لا تحتوي معنى، وزمن لا يتحرك.
  • "الزر بلا قميص" يرمز إلى العلاقة التي بقي منها مجرد رمز بلا روح.
  • "محطة انتظار العودة" تشير إلى انتظار أبدي قد لا ينتهي، في إشارة للمصير الإنساني العالق في اللايقين.

ملحوظات فنية:

  • الديكور: مجرد – كرسيان، نافذة مفرغة، ساعة بلا عقارب، طاولة مائلة.
  • الصوتيات: أصوات غريبة مثل أنين نائم، صدى أصوات، بكاء طفل يتحول إلى قهقهة.
  • الإضاءة: غير مستقرة، تومض دون منطق، وتطفأ فجأة.
  • الزمن: غير محدد – كل شيء يحدث وكأنه حدث مرارًا.

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية