فلسفة الحيوان

 

فلسفة الحيوان 

قد يكون الخبير (Hafid Al Maach) الذي تعرفت عليه من خلال الفيسبوك تعرض لمواقف سلبية مع البشر، مما جعله يرى الحيوانات ككائنات أكثر استحقاقًا للرحمة والرعاية. كثير من الأشخاص الذين يواجهون خيبات الأمل في تعاملاتهم البشرية يلجؤون إلى الحيوانات كملاذ عاطفي، لأن الحيوانات لا تحكم، لا تخون، ولا تحمل ضغائن، مما يجعل التعامل معها أكثر نقاءً وخلوًا من التعقيدات الاجتماعية والنفسية التي يواجهها البشر مع بعضهم البعض. 

   من منظور فلسفي، يمكن اعتبار سلوكه نوعًا من الإيثار غير المشروط (Altruism) حيث يعامل الحيوانات بلطف ليس لمصلحة مادية، بل بدافع داخلي من الرحمة والإنسانية. او ربما يكون هذا الطبيب قد تبنى رؤية خاصة لمهنته، يراها رسالة إنسانية وليست مجرد مصدر دخل. بعض الأطباء البيطريين يعتبرون أنفسهم مدافعين عن حقوق الحيوانات، متأثرين بأفكار مثل الرفق بالحيوان وحقوق الكائنات الحية. قد يرى البعض تعاطفه مع الحيوانات شاذًا عن القاعدة الاجتماعية التي تعطي الأولوية للبشر، لكن في نفس الوقت، يمكن القول إنه ليس بالضرورة أمرًا سلبيًا. بل ربما يكون هذا الطبيب يجسد نموذجًا من الرحمة التي يفتقدها البشر في تعاملاتهم مع بعضهم البعض. إذا كان هذا السلوك ينعكس سلبًا على تعامله مع الناس، فقد يكون الأمر بحاجة إلى إعادة توازن، لكن إذا كان تعاطفه يشمل الجميع مع ميله للحيوانات، فهو مجرد تعبير عن طبيعته العاطفية. 

ومن خلال معرفتي البسيطة وعرفت شغفه بالفلسفة وتحمسه لها، استنتجت ان لديه رؤية عميقة للحياة تتجاوز مجرد الممارسة المهنية.. هذا يفتح المجال لتفسير سلوكه تجاه الحيوانات والبشر من زاوية فلسفية أكثر تعقيدًا، ربما ينتمي إلى إحدى المدارس الفكرية الفلسفية التالية:  

1.  الفلسفة الأخلاقية (Ethics): 

   قد يكون متأثرًا بمبدأ الرحمة الكونية (Universal Compassion) الذي يتجلى في الفلسفات البوذية أو الأخلاقية الحديثة مثل أخلاقيات الحيوانات nimal Ethics)) التي ترى أن كل كائن حي يستحق الرحمة بغض النظر عن نوعه. 

2. العدمية الإيجابية (Positive Nihilism): 

   ربما يرى في العالم عبثية وظلمًا اجتماعيًا، فيلجأ إلى رعاية الحيوانات كطريقة لخلق معنى شخصي وسط العبث، كما يفعل بعض الفلاسفة العدمويين الذين يحاولون بناء قيمة ذاتية للحياة. 

3. الإنسانوية الممتدة (Extended Humanism): 

   هناك تيارات فلسفية توسع مفهوم الإنسانية ليشمل جميع الكائنات الحية، أي أنه لا يرى فارقًا أخلاقيًا جوهريًا بين الإنسان والحيوان، فيتعامل معهما بنفس المستوى من الاحترام والرحمة.   

إذًا، بناءً على تفاعله معي في الفلسفة وشغفه بالحيوانات، يبدو أن هذا الشخص لا يهرب من الواقع، بل يمتلك منظورًا متكاملًا يجمع بين العقل والتعاطف. يمكننا تحليل شخصيته من خلال هذه النقاط: 

1. الاتساع المعرفي وتكامل الفكر 

   - كونه متعلمًا ومهتمًا بالفلسفة والحيوانات معًا، يعني أنه لا يرى تناقضًا بين الفكر النظري (الفلسفة) والتطبيق العملي (البيطرة). بل ربما يجد في الفلسفة أداة لفهم الحياة، وفي الطب البيطري وسيلة لتطبيق قناعاته الأخلاقية.  

2. موقفه من الكائنات الحية

   - إذا كان ينشر باستمرار عن الحيوانات، فقد يكون متأثرًا بتيارات مثل حقوق الحيوان، أو ربما يعتبر نفسه سفيرًا لنشر التوعية حول أهمية احترام جميع الكائنات الحية. هذا لا يعني أنه يفضّل الحيوانات على البشر، بل ربما يرى أن الجميع يستحق العناية والاحترام.

3. فلسفة العلاقة بين الإنسان والطبيعة 

   - الفلاسفة عبر التاريخ ناقشوا علاقة الإنسان بالطبيعة والحيوانات، مثل رينيه ديكارت الذي اعتبر الحيوانات مجرد "آلات"، بينما خالفه آرثر شوبنهاور الذي رأى في الرفق بالحيوان مقياسًا لأخلاق الإنسان. 

   - لذلك وجدته متأثرًا بمدارس فلسفية تعزز التواصل بين الإنسان والطبيعة، مثل الفلسفة الرواقية أو حتى نظريات البيوفيليا (حب الطبيعة). وحصل لي انطباعا انه ليس شخصًا منعزلًا عن البشر، بل لديه اهتمام بمجالات مختلفة، مما يشير إلى توازن فكري وعاطفي. لذا اعتبره نموذجًا للفرد المثقف الحساس وهذا ما لمسته والذي يرى الجمال في كل أشكال الحياة، حيث يبدو أنه يتبنى نظرة مثالية للحيوانات مقارنة بالبشر، كفلسفة "الطبيعة النقية" مقابل "الإنسان الفاسد" الذي نادى به الفيلسوف جان جاك روسو، الذي رأى أن الإنسان كان فاضلًا بطبيعته، لكن المجتمع أفسده. بينما مجتمع الحيوانات مجتمع اكثر انصافا لان العقل الذي يميز الإنسان هو السبب في فساد أخلاقه، لأنه يمنحه القدرة على الكذب، الخداع، والبحث عن السلطة.

نعم، هناك عدة فلاسفة ومدارس فكرية تناولت موضوع الحيوانات وعلاقتها بالمجتمع والوجود من زوايا مختلفة، سواء من حيث الأخلاق، أو الوعي، أو الدور الذي تلعبه في النظام البيئي والكوني. منها: 

1. الفلسفة اليونانية القديمة 

- أرسطو: رأى أن الحيوانات أدنى منزلة من البشر بسبب افتقارها للعقل والمنطق، لكنه درسها بشكل موسّع في كتابه "تاريخ الحيوانات". 

- أفلاطون: لم يُعر اهتمامًا كبيرًا للحيوانات، لكنه أشار إليها في نظرياته حول الميتافيزيقا والتقمّص. 

 2. الفلسفة الشرقية والتصوف 

- البوذية والهندوسية: تعتبران الحيوانات كائنات واعية تستحق الرحمة، وتؤمنان بعقيدة التناسخ، حيث يمكن للإنسان أن يولد كحيوان والعكس. 

- الصوفية الإسلامية: بعض المتصوفة، مثل جلال الدين الرومي، نظروا إلى الحيوانات على أنها كائنات ذات روح ووعي يمكنها أن تكون وسيلة لفهم العلاقة مع الله. 

 3. الفلسفة الحديثة والمعاصرة 

- ديكارت: اعتبر الحيوانات "آلات حية" تفتقر إلى الوعي الحقيقي، وهو ما أثار جدلًا كبيرًا لاحقًا. 

- شوبنهاور: انتقد النظرة الديكارتية، وقال إن الحيوانات تمتلك إرادة حقيقية وأخلاقًا فطرية. 

- نيتشه: رأى أن الإنسان والحيوان ليسا منفصلين تمامًا، وأن الإنسان نفسه يحمل غرائز حيوانية لا يمكن إنكارها. 

- هايدغر: تحدث عن الفرق بين الوجود الإنساني (Dasein) ووجود الحيوانات، حيث اعتبر أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التأمل في وجوده.  

 4. الفلسفة الأخلاقية وحقوق الحيوانات 

- بيتر سينغر (Peter Singer): في كتابه "تحرير الحيوانات" (Animal Liberation) , قدّم فلسفة utilitarianism (النفعية) للدفاع عن حقوق الحيوانات، معتبرًا أن قدرتها على الشعور بالألم تجعلها تستحق الاحترام الأخلاقي. 

- توم ريغان (Tom Regan): رفض الرؤية النفعية، ودافع عن فكرة أن الحيوانات تمتلك "حقوقًا طبيعية" يجب احترامها مثل البشر. 

 5. الفلسفة البيئية والوجودية 

- مارتن بوبر (Martin Buber): تحدث عن العلاقة بين الإنسان والحيوان في إطار علاقات الـ"أنا-الأنت"، حيث يرى أن الحيوانات ليست مجرد أدوات بل كيانات يمكن التواصل معها بصدق. 

- ألدوس هكسلي (Aldous Huxley) و أرني نايس (Arne Naess): شددا على ضرورة احترام الحياة بكل أشكالها، وظهرت معهما فلسفة "البيئة العميقة" التي ترى أن للحيوانات والطبيعة قيمة ذاتية بعيدًا عن فائدتها للبشر. 

 6. الرؤية الاجتماعية والسياسية 

- ماركسية إيكولوجية: ترى أن الرأسمالية استغلت الحيوانات كما استغلت البشر، وتقترح نظامًا أكثر عدلًا يشمل احترام الكائنات الحية الأخرى. 

- جاك دريدا (Jacques Derrida): تناول في كتابه "الحيوان إذن أنا" (The Animal That Therefore I Am) كيفية تعامل الفلسفة الغربية مع الحيوانات، وانتقد النظرة التقليدية التي تفصل بينها وبين البشر. 

الخلاصة:

الفلسفة لم تهمل دور الحيوانات في المجتمع والوجود، بل تعاملت معها بطرق مختلفة، من النظرة الأدنى (كما عند أرسطو وديكارت) إلى الاعتراف بوعيها وحقوقها (كما عند سينغر وريغان ودريدا). السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل نعيد النظر في علاقتنا مع الحيوانات وفقًا لهذه الفلسفات؟

عدنان الطائي

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية