هجاء العاشقين وهجاء الفحول: قراءة مقارنة بين خصومة ابن زيدون وولّادة، ونقائض جرير والفرزدق

 

هجاء العاشقين وهجاء الفحول: قراءة مقارنة بين خصومة ابن زيدون وولّادة، ونقائض جرير والفرزدق

المقدمة

في تاريخ الشعر العربي، تتخذ الخصومات ألوانًا متعددة، تتأرجح بين العاطفة المتأججة والنَفس الفحولي التنافسي. وبينما مثّلت نقائض جرير والفرزدق نموذجًا لصراع الشعراء الفحول في ميادين الهجاء، قدمت لنا علاقة ولّادة بنت المستكفي وابن زيدون خصومةً من نوع آخر، هجاءً لا يخلو من حنين، وعتابًا شفّافًا لا يُعادي.

أولًا: خلفية الخصومتين

جرير والفرزدق والأخطل كانوا فرسان معارك كلامية لا هوادة فيها، تنازعوا على المكانة الأدبية والقبلية، وتبادلوا هجاءً قاسيًا يستهدف الأصل، النسب، والشرف. ابن زيدون وولّادة جمعهما الحب أولًا، وفرقتهما الغيرة والخذلان والخيبة. ظلّت العلاقة رغم الخصومة مشدودة بخيوط الذكرى والعاطفة، وهو ما انعكس على نبرة الهجاء والعتاب.

ثانيًا: طبيعة الهجاء

  • هجاء الفحول: يتميّز بالشراسة، خالٍ من الرأفة. يقول جرير في الفرزدق:

فغضّ الطرف إنك من نميرٍ ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
وهو تصريح بوضاعة النسب وهوان الأصل.

  • هجاء العاشقين: يقول ابن زيدون يرد على خصومه:

ولو تصابى إلينا من علياء مطلعه ... بدر الدجى ما كان حاشاه يصبينا

ويقول ردًا غير مباشر على ولّادة:
ما ضرّنا وإن لم نكن أمثالكم شرفًا ... ففي الود كافٍ من تصافينا

والولّادة بدورها لم تشتطّ في هجائها:

إن ابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلماً ولا ذنب لي

فكأنها تشكو لا تهجو، وتعاتب لا تقذف.

ثالثًا: البنية النفسية والاجتماعية للهجاء

  • في النقائض:

 الشعر أداة سلاحية، يُقاتَل بها كما يُقاتَل بالسيوف، وهي وسيلة لإثبات الفحولة الشعرية والمكانة القبلية. النرجسية هنا هي نرجسية انتصار وتفوق، لا علاقة لها بالحب أو بالأنوثة.

  • في خصومة ولادة وابن زيدون:

تتجلى النرجسية بصيغة مختلفة: نرجسية الجرح، نرجسية الكبرياء المجروح، والرغبة في الحفاظ على الكرامة رغم الانكسار. فالطرفان يعرفان مقدار ما كان بينهما، ولا يريدان تشويهه كليًا.

رابعًا: بلاغة العتاب لا بلاغة الطعن

الأسلوب في الهجاء بين ابن زيدون وولّادة يميل إلى الرقة حتى في مواضع القسوة، وهو ما يُخرج هجاءهما من نطاق "النقائض" إلى حقل "العتابيات"، وهي فن قائم بذاته في الشعر العربي. أما جرير والفرزدق فهما شعراء معارك لفظية، بلا تردّد أو رقّة.

الخاتمة

إذا كانت النقائض صورة لصراع الذكورة في المجتمع الجاهلي والإسلامي، فإن خصومة ولّادة وابن زيدون تمثل صورة أرقى للعاطفة حين تجرح وتغضب، ولكنها لا تنحدر. الهجاء هنا ليس هدفًا، بل عرضًا من أعراض الافتراق. فشتان بين من يهجو خصمه ليقتله أدبيًا، ومن يهجو حبيبه في محاولة لاستعادته أو على الأقل لجرحه كما جُرح.

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية