مقالة بين نار الهوى وجمر الكرامة: قراءة في قصة ولّادة بنت المستكفي وابن زيدون بين العشق والهجاء
مقالة بين نار الهوى
وجمر الكرامة:
قراءة في قصة ولّادة
بنت المستكفي وابن زيدون بين العشق والهجاء
بقلم عدنان الطائي
تمهيد
في التاريخ الأدبي
للأندلس، لا نجد قصة حب قديمة تُجاري في شهرتها وأثرها علاقة ولّادة بنت المستكفي
بالشاعر الأندلسي أحمد بن عبد الله بن زيدون. لم تكن مجرد علاقة غرامية يتبادل
فيها العاشقان الشعر والرسائل، بل كانت مرآة لصراع أعمق: بين الهوى والكرامة، وبين
الكبرياء الأنثوي والمكانة الذكورية، وبين الحبّ كما يُكتَب في القصائد، والخذلان
كما يُعاش في الواقع.
لقد اختار التاريخ أن
يحتفظ لنا بهذه العلاقة بكل ما فيها من شغف وانكسار، من وله وفراق، ومن رجاء
وهجاء، فصارت رمزًا أدبيًا لحبٍ لم يكتمل، ولقلبٍ لم يغفر، ولروحٍ أبية اختارت
الشعر درعًا.
أولًا: ولّادة بنت
المستكفي – بين الحسب والموهبة والتمرّد
ولّادة هي ابنة الخليفة
الأموي المستكفي بالله، وقد نشأت في بيئةٍ أرستقراطية لكنّها لم تكن أسيرة القصور.
اختارت أن تكون امرأة حرة، تقيم مجالس الأدب والشعر، تجادل كبار الشعراء، وتعبّر
عن نفسها في مجتمعٍ تحكمه سلطة الرجال. كانت على قدرٍ عالٍ من الذكاء والثقافة،
وتُمثّل في سيرتها نموذجًا مبكّرًا للمرأة التي تتحدّى الأدوار التقليدية، وتثبت
حضورها الفكري والاجتماعي عبر الكلمة.
ثانيًا: ابن زيدون –
شاعر العشق والسياسة
ابن زيدون، أحد فحول
الشعراء في الأندلس، كان صاحب بيان ساحر وعاطفة مشتعلة. أحبّ ولّادة حبًا عظيمًا،
لكنه أيضًا لم يكن وفيًا لها كما كانت تتمنى. فبحسب كثير من
الروايات، خانها مع جاريتها، أو سعى لتسلّق السُّلّم السياسي على حساب قلبها،
فانهار ما بينهما، وسقطت صورة الحبيب أمام عينيها. لكن الحُب،
رغم جراحه، لم يفارق قلمه؛ فكتب لها أروع رسائل الغرام، ومنها: كتبتُ إليكِ مُقلّبَ الطرف في ماضي أيامه، مسترجعًا عهودًا كانت بيننا
أحلى من المنام، وأروح للروح من نسيم الأحلام.
ثالثًا: هجاء ولّادة –
دفاع عن الكرامة أم نرجسية أنثوية؟
هنا نصل إلى جوهر
الإشكال: كيف نفسّر هجاء ولّادة لابن زيدون؟ وهل يصحُّ اتهامها بالنرجسية من خلال
هذين البيتين؟
إن ابن زيدون على فضلهِ يغتابني ظلماً ولا ذنبَ لي
يلحظني شزراً إذا جئتهُ كأنّني
جئتُ لأُخصيَ علي
هذان البيتان شديدا الجرح، فيه اختزال
لانكسار الأنثى التي أحبّت بصدق ثم طُعنت. لكن القراءة الذكورية التقليدية لهذا
النص وصفت ولّادة بالمتكبّرة، الناقمة، وربما حتى النرجسية. لكن، الحقيقة أن هجاءها لا يعكس نرجسية مَرَضية، بل:
- استعادةٌ لكرامةٍ مُهدورة.
- ردٌّ ثقافيٌ واعٍ على خيانة رجلٍ أراد أن
يعود بكلمات لا بأفعال.
- وثورة على سلطةٍ مجتمعية تُعطي للرجل حقّ
الخطأ وتحرمه على المرأة.
ولّادة لم تكن "نرجسية" بل
"يقظة". هجاؤها كان تمرُّدًا شعريًا على التهميش العاطفي، واختيارًا
للكبرياء بدلًا من الذلّ تحت ظل الحب.
رابعًا: الحب والهجاء –
لغة الصراع العاطفي في شعرهما
في رسائل ابن زيدون
نقرأ لهفة رجلٍ فقد محبوبته: لو كنتُ أملك أن أهديكِ ما يسوؤكِ فيرضيكِ،
لسارعت إليه، فكيف أتوانى عن إسعادك بما تحبّين؟ بينما في شعر ولّادة نقرأ مرارة
امرأة قرّرت ألّا تسامح:
لو كنتَ تنصفُ في الهوى ما بيننا لم تهوَ جاريتي ولم
تتخيَّرِ
هنا يتبدّى الفارق
الجوهري بينهما: هو يطلب الغفران من منطلق الحبّ.. وهي ترفض من
منطلق الكرامة.
خامسًا: الدلالة
الثقافية لقصة ولّادة وابن زيدون
تمثّل هذه القصة أكثر
من علاقة غرامية فاشلة:
- إنها مرآة لصراع بين الحب والسلطة.
- تكشف كيف تعامل المجتمع الأندلسي مع صوت
المرأة الحرة: حين أحبت، باركوا؛ وحين هجت، اتهموها.
- توضح أن المرأة المثقفة في التراث العربي
لم تكن دومًا خاضعة، بل كانت قادرة على هزيمة الرجال بالكلمة.
خاتمة: قصة لم تنتهِ
لم تتزوّج ولّادة،
ويُقال إن ابن زيدون ظلّ يكتب عنها حتى بعد موتها. الحبّ بينهما كان شاسعًا
كالأندلس، لكنّه احترق كما احترقت قرطبة يومًا. وربما كان
على كلّ عاشقٍ أن يقرأ هذه القصة ليعرف أن الحبّ وحده لا يكفي، إن لم تقف الكرامة
شامخة إلى جواره.
تعليقات
إرسال تعليق