قصة قصيرة (انكسار الإله)

قصة قصيرة (انكسار الإله)

بقلم: عدنان الطائي

    كانت العاصفة تمزّق البحر كأنياب وحشٍ جائع، والسماء تئنُّ من غضبٍ مكتوم.. على الشاطئ الهائج، جثا جسد أودينوس، ساكنًا كزهرة مقطوعة في مهبِّ الريح ن وفي الأعالي، وقف زيوس، الإله الجبّار، عاري الصدر، عيناه كجمرتين تلتهبان غضبًا. رعدت السماء مع صرخته، وتكسّرت أمواج البحر تحت قدميه، كأن الكون بأسره ينتحب لمصابه. كان الحبُّ، ذاك الجرمُ الخادع، قد انتزع منه تاجه الخالد. فينوس، جميلة الجميلات، تركت معبدها، ونسجت من خيوط البنفسج زفافًا سريًّا، وهربت مع عشيقها أودينوس، متحدّيةً مقادير الآلهة.. زيوس لم يحتمل الخيانة. بقبضة واحدة، قلب الفصول فوق رأسيهما، وجعل الربيع يبكي صقيعًا. وفي لحظة هوجاء، سقط أودينوس، غارقًا بدمائه بين الحصى والزهور لممزقة.

    اقترب زيوس من جسد الغريب المسجى، فوجد وجهه ساكنًا، هادئًا، كأنما استراح من أبدية العذاب. وفي تلك اللحظة، شعر الإله بما لم يشعر به من قبل هزيمة. ليس لأن جسد العاشق قد هلك... بل لأن روحه انتصرت، وحررت قلب فينوس إلى الأبد. رفع زيوس رأسه نحو السماء، لكنها بدت بعيدةً، موحشةً، لا تصغي لصراخه. كانت الجماهير التي طالما مجّدته قد صمتت، تتفرج عليه بعيونٍ لا تعرف التقديس، لا تهتف إلا للمنتصرين. في صمت الموج ونحيب الرياح، جرّ زيوس أذيال خيبته، وانكمش طيفه المتكبر شيئًا فشيئًا، حتى تلاشى بين غبار الدخان، مخلفًا وراءه عالماً لم يعد يُقدّس إلا الحب، ذلك العدو الذي لم ينتصر عليه يومًا. ومضت فينوس تضع زهرة على قبر اودينوس، ومن الأفق البعيد جاء صوت حزين رخيم يحكي همسة الخلود.. همسة انكسار الاله

حين سقط أودينوس، لم تصرخ فينوس...

بل ابتسمت، ووضعت على صدره إكليل البنفسج.

في تلك اللحظة، فهم زيوس الحقيقة:

الخلود ليس في السماء،

بل في قلب من يُحَب حتى الموت.

حتى صار على اعتاب المشهد الاخير: ما بعد الغياب.. في حديقةٍ لا تشيخ فيها الأزهار، جلس أودينوس تحت شجرة اللوز، يغني بصوتٍ يشبه أول الربيع. ظهرت فينوس، لا كإلهة، بل كامرأةٍ سقطت عنها التيجان وبقيت العيون، عينان تبحثان عن رجل لم تنسه حتى حين خلق له الكون مقبرة من المجد. اقتربت منه. مدّ يده دون أن يلتفت، كأنه كان يعلم أنها ستأتي.

قالت همسًا"سامحني... لقد خنت معبدك، لكني اخترت قلبي."

ردّ مبتسمًا"كنتُ أنا معبدك، دون أن تدري."

ثم صمت الكون من جديد...

ولأول مرة، بكى زيوس في السماء،

لكن لم يره أحد.

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية