أقصوصة الخريف يخضر ثانية

الخريف يخضر ثانية

   ليست كل اللقاءات تبدأ من مقعد في مقهى، أو مصافحة على عتبة باب… قد بعض الحكايات تبدأ من سطر، من فكرة، من قصيدة يقرأها قلبٌ قبل أن تراها العين.. هكذا كانت بدايته معها، حين قرأتْ كلماته، وأدرك في دهشتها مرآته. هي أديبة، تكتب كمن تُصلي، وتتكلم كمن تُفكّر نيابة عن الزمان. اللقاء لم يكن افتراضيًا كان القدر لعب دوره، بل حقيقيًا بقدر ما يكون الفكر والوجدان كحقيقة لا تُلمس، او كشيخ اعتاد جفاف الخريف، باغتته نسمة عليلة محملة بعطر الياسمين في وقت الذبول. حتى انبثقت لحظة انبعاث بين الحلم والذكرى، بين الحكمة والعمر، وجنون الشباب حين يعود فجأة كزائرٍ مفاجئ…  استقبله بخجل القلب، ودهشة الروح، ورجاءه أن يخضرّ الخريف… ثانية، حين علم انها  قرأت إحدى مقالاته الفلسفية، وبعضًا من أشعاره الرومانسية،فانبهرت، وتلاشى انبهارها بين اعترافها إنها كاتبة قصة، وأديبة أكاديمية، تصغره سنًا، تناظره فكرًا… وهذا ما أسره وهو يهمس في اذن عويل الفراغ: أحببتُ فيها بساطتها، كبنات الريف تعجن الشمس مع الخبز، وذكاءها الفطري، كأنها حفيدة الكتب القديمة... أحببتُ فيها نضجها الفكري وروحها الشفيفة وصدقها السامق كالنخيل، يحاكي الزمن الجميل، طالما تظلل في افيائه وتغنى تحتها الشعراء.. فتلاقت أفكارهما وتماهت روحه طربا، كأنه في الزمن السعيد.. ملئتْ فراغ روحه العذري بنسمات قدسية، داعب مخيالها المتسامي،  في ملكوت السماء بلمحات أدبية رخية.. انسل من مخياله يُحاكي قطرات الندى: فاجئني مخيالي شيء، أبهرني حوارها، وجدتها تكتب كمن يسكب الحبر من قلبها، لا من محبرتها، كل حديث معها كان طقسًا روحيًا، وكل كلمة تفتح في داخلي نافذة، لم يدخلها هواء منذ زمن.. اشعر انها ترمقني من تحت أناملها الندية، خجلا، وأنا استرق السمع من بين حروفها كلص محترف مترجما نبراتها إلى صورة أقرب إلى صوتها ألرخيم الناعم يداعب قلبي الكسير.. أكل الدهر عليه وشرب. تسامت روحي وارتفع صدري شهيقا حين وجدت حضورها الأدبي وبريقها الفكري يكاد يعادل عمري ضعفًا. تخيلتُ دفئها الانثوي حين يتكلم الصمت بأصابع امرأة.. تخيلت صورتها وهي سامقة كالطود الشامخ تجاه الريح، واقفة باعتزاز وكبرياء كأنها كلكامش حين طلب الخلود من الإله بثقة واقتدار.. أطرقتُ رأسي خجلاً، وتمنيتُ ان يخضرّ خريفي ثانية

عدنان الطائي