الفردانية الأخلاقية: نحو توازن إنساني في ظل القيم المحافظة الفردانية كقيمة لا كتمرد
في زمن تتسارع فيه مفاهيم الحداثة، وتعلو فيه
الأصوات المطالبة بتحرر الفرد من كل قيد، تقف المجتمعات المحافظة في مفترق طرق:
أتهدم الجماعة لأجل الفرد؟ أم تُقيد الفرد باسم الجماعة؟ أيهما أولى: الحفاظ على
الهوية الجمعية أم إعلاء شأن الذات الفردية؟
الفردانية، في أصلها،
ليست شرًا مطلقًا ولا الخير المطلق. هي كالسيف؛ يُرفع للعدل أو يُشهر للقتل. فحين
تُفهم على أنها تمرد على كل قيمة، ورفض لكل مرجعية، تتحول إلى نزعة أنانية قد تقود
الفرد إلى العزلة، ثم إلى العدمية؛ تلك الفلسفة التي تنكر أي معنى موضوعي للوجود،
وتشكك في كل منظومة أخلاقية.
وفي هذا السياق، يظهر أثر العبثية، حيث يشعر
الإنسان الفرد بأنه في صراع مع كون لا يُجيبه، يبحث عن معنى في عالم لا يقدم
إجابة. فيغدو حائرًا بين السؤال والصمت، بين الحريّة والانهيار.
إن الفردانية المتطرفة، حين تنزع عنها قيم
المسؤولية والتكافل، تترك الفرد أمام فراغ روحي ومعنوي، فيتجه إما إلى العدمية
الباردة، أو إلى العبثية الساخطة التي عبّر عنها ألبير كامو حين قال: "لا شيء
يُبرّر الحياة... سوى التمرّد على عبثها".
لكن في المقابل، رفض الفردانية كليًا باسم
الجماعة والتقاليد قد يؤدي إلى قمع الفرد، وإلى طمس الإبداع، وتكبيل العقل، وفرض
الصمت على الاختلاف. فيتحول الإنسان إلى نسخة مكررة من الجماعة، لا رأي له ولا
مشروع.
من هنا، تبرز الحاجة إلى ما يمكن أن نُسميه
بـ الفردانية الأخلاقية: فردانية تعترف بحرية
الإنسان، لكنها تربطه بالمسؤولية. تحترم تفكيره، لكنها لا
تفصله عن مجتمعه. تمنحه حق البحث عن معنى
لحياته، دون أن تقطعه عن الجذور الروحية والثقافية التي تمنحه الاستقرار.
إن المجتمع المحافظ لا يحتاج إلى أن يخشى
الفردانية إذا قُدّمت كقيمة إنسانية، لا كتمرد فوضوي. بل على العكس، يمكنه أن
يحتضنها في سياقها الأخلاقي، فيربي أبناءه على الحرية الواعية، لا الحرية المطلقة؛
على التفكير لا التمرد؛ وعلى أن يكون الإنسان ذاته، دون أن يُسقط الجماعة من حسابه. الفرد ليس عدو الجماعة، بل هو ابنها الناضج،
إذا ما أُعطي حقه في أن يكون، وأن يخطئ، وأن يتعلم، وأن يختار.
وهكذا، لا نختار بين الفردانية والهوية، بل
نختار صيغة متوازنة تدمج بين الحرية والمعنى، بين الذات والانتماء، وبين التمرد
الأخلاقي والولاء الواعي. فربما في هذا التوازن،
نستطيع أن نعيش… لا عبثًا، ولا عدميين، بل أحرارًا بالمعنى. إنه توازن دقيق، لكنه ليس مستحيلًا. وقد يكون
هذا التوازن هو الخطوة الأولى نحو نهضة لا تفصلنا عن تراثنا، ولا تعيق تقدمنا.
عدنان الطائي
تعليقات
إرسال تعليق