تاريخ التوراة: بين الرواية التقليدية وإعادة القراءة الحديثة
هناك دراسات تاريخية حديثة تثبت بالأدلة الأثرية أن التاريخ المكتوب في التوراة هو تاريخ اليمن وليس عائديته الى فلسطين وان تاريخ بني إسرائيل جزء لا يتجزا من تاريخ التحالف السبئي القديم وان بني إسرائيل ليس هم اليهود.
من الملاحظ ان هذه الفرضية تظل محل جدل،
لكنها لا تحظى بتأييد قوي في الأوساط الأكاديمية التاريخية. فالتاريخ المعروف عن
بني إسرائيل يؤكد ارتباطهم بفلسطين القديمة، كما يُقال أن الأدلة الأثرية تشير إلى
وجودهم هناك منذ فترة طويلة. يمكن اعتبار الادعاءات حول الأصل اليمني لبني إسرائيل
جزءًا من محاولات إعادة قراءة التاريخ لكنها تفتقر إلى دعم علمي وأثري كافٍ.
ظهرت دراسة جديد تؤكد ان تاريخ التوراة يعود
الى اليمن وليس الى فلسطين، هذه الدراسة هي للدكتور فاضل الربيعي.. نعم، المؤرخ العراقي
فاضل الربيعي هو أحد أبرز الباحثين الذين طرحوا هذه الفرضية في كتبه، مثل "فلسطين المتخيلة" و"أسطورة
العبرانيين"، حيث يجادل بأن الرواية التوراتية لا تتعلق بفلسطين، بل بجنوب
الجزيرة العربية، وبالتحديد اليمن. يعتمد في ذلك على مقارنات لغوية وجغرافية
وتحليل للنصوص التوراتية. دعني أقدم تحليلًا نقديًا متوازنًا لأفكاره:
أفكار فاضل الربيعي
الرئيسية:
1. أسماء الأماكن والتشابه الجغرافي:
o
يرى أن أسماء الأماكن
المذكورة في التوراة (مثل أورشليم، بيت إيل، مجدّو) لها نظائر في اليمن وليس في
فلسطين.
o
يقترح أن
"إسرائيل" التوراتية كانت قبيلة يمنية وليست كيانًا سياسيًا في كنعان.
2. غياب الأدلة الأثرية في فلسطين:
o
يجادل بأنه لا توجد
أدلة أثرية دامغة تثبت وجود بني إسرائيل كدولة قوية في فلسطين القديمة.
o يشير إلى أن الآثار
الموجودة تعود إلى حضارات كنعانية وفينيقية، وليست "إسرائيلية".
3. التحليل اللغوي والجذور اليمنية:
o يربط بين بعض الكلمات
التوراتية واللهجات اليمنية، معتبرًا أن التوراة سُجلت بلغة قريبة من العربية
الجنوبية القديمة.
4. التاريخ اليهودي في اليمن:
o
يلفت النظر إلى وجود
اليهود في اليمن منذ القدم، ويعتبر أن هؤلاء هم الأصل وليسوا جزءًا من الشتات.
نقد الفرضية من منظور
علمي وتاريخي
1. عدم وجود إجماع أكاديمي على أطروحته:
o
معظم علماء التاريخ
والآثار يعتبرون أن الأدلة الموجودة حتى الآن تشير إلى أن الرواية التوراتية تدور
في فلسطين، حتى لو كانت بعض التفاصيل مبالغًا فيها أو أسطورية.
o
نقوش مثل نقش مرنبتاح
المصري (1200 ق.م) تذكر "إسرائيل" في كنعان، مما يشير إلى أن بني
إسرائيل كانوا هناك.
إشكالية التشابه اللغوي:
o
صحيح أن بعض أسماء
الأماكن تتشابه بين اليمن وفلسطين، لكن ذلك لا يعني أن الرواية التوراتية يمنية.
فالتشابه اللغوي يحدث نتيجة الهجرات والصلات الثقافية بين الشعوب.
2. الوجود الأثري اليهودي في فلسطين:
o
هناك آثار في فلسطين
تعود لفترات لاحقة، مثل مملكة يهوذا والسامرة، والتي تثبت وجود مجتمعات يهودية
قديمة.
o
القدس كانت مركزًا
دينيًا منذ القرن العاشر قبل الميلاد، وفقًا للنصوص والآثار.
3. يهود اليمن جزء من الشتات:
o اليهود في اليمن يُعتقد
أنهم جاءوا لاحقًا نتيجة الهجرات بعد خراب الهيكل الأول والثاني، وليسوا أصل بني
إسرائيل.
الخلاصة
فرضية الربيعي مثيرة
للاهتمام، لكنها لا تزال بعيدة عن الإجماع الأكاديمي. رغم أن هناك نقاطًا تستحق
الدراسة، مثل التشابه اللغوي وأهمية اليمن في التاريخ اليهودي، إلا أن الأدلة
الأثرية والتاريخية تميل إلى تأكيد الوجود اليهودي المبكر في فلسطين. وقد تبين ان كتبة التوراة تعمدوا الخلط بين الأدوار
الثلاثة (دور إبراهيم الخليل ودور موسى ودور اليهود) فربطوا تلك العصور بعضها بعضا ربطا مفككا ومشوها متناسين بان الاكتشافات الأثرية
أثبتت زيف ادعاءاتهم، من أن تلك
العصور كانت مستقلة بذاتها تماما ولم يكن لليهود أي وجود فيها. وعليه نجد أن كلمة
عبري وأرامي ترتبط بكلمة عربي ارتباطا لغويا متينا لأنها مشتقة من أصل واحد هي
العربية باعتبارها أم اللغات السامية وأكثرها شبها باللغات السامية المتطورة، وهي
أكثر ارتباطا من كلمة يهودي، لذلك تدل تلك الكلمات على معنى واحد ([1]) والتوراة تتحدث عن
العبرانيين بصفتهم غرباء حيث تقول الآية 21 من سفر الخروج: (إن اشتريت عبدا
عبرانيا فليخدمك ست سنوات) كما تؤكد التوراة بان المصريين يتكلمون لغة كنعان وهي
العبرية ([2])
وهي اللغة المتداولة في كنعان قبل مجيء اليهود .. وقد علق فرويد على
مسالة (العبيرو) بقوله: (ونحن نعرف أخبار هؤلاء المحاربين من الرسائل المكتشفة عام
1887 في سجلات مدينة العمارنة المتهدمة، فهي تسميهم باسم (عابيرو) وقد أطلق هذا
الاسم فيما بعد لسنا ندري كيف، على الغزاة الجدد اليهود. كما دللت آيات قرآنية على
قدرة اليهود على التحريف منها قوله تعالى في سورة البقرة : ((فويل للذين يكتبون
الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)) والدليل الاخر أن اليهودية ليست دينا
سماويا هو القران الكريم حيث أُطلق على أولئك الذين أتبعوا موسى بـ(قوم موسى) تارة
وتارة أخرى بـ (بني إسرائيل) لكونهم تدينوا بدين يعقوب ((إسرائيل)) والتي تعني (اسرة
-ايل) أي عبد الله لان العرب ومازالوا اعتادوا ربط الأسماء مع الاله تقديسا للشخص
المولود مثل عبد الرحمن، وهو على دين أبيه إبراهيم الخليل وهذه التسمية جاءت في
القرآن الكريم على سبيل الرضا من الله تعالى وليس الذم في حين جاء الذم منصبا على
اليهود ، ومن هنا نستنتج بأن اليهود قوم غير قوم بني إسرائيل كما نبين ادناه:
بعد أن بينا أن اليهودية ليست دينا سماويا
فقد جاء التاريخ دوره ليثبت أن اليهود ليسوا من بني إسرائيل، أي ليسوا من نسب
يعقوب كما يدعون زورا وبهتانا. فإذا ما تابعنا الأدوار التاريخية حسب تسلسلها
الزمني لغرض إثبات ذلك يتوجب علينا أولا التمييز بين عصر إبراهيم الخليل ويعقوب ((إسرائيل)) وبين زمن قوم
موسى وبين زمن مملكة يهوذا التي جاء منها تسمية ((يهود))([3])
. وذلك عن طريق جملة من الآليات والتي منها لمعرفة أنساب وأصول الأقوام هي اللغة
والدين، لأن اللغة والدين شيء واحد (حسب رأي علماء اللسانيات) . وعلى هذا الأساس
يحسن بنا أن نلاحظ تسلسل هذه الأدوار بالقياس إلى اللغة والديانة حسب أزمانها ادناه:
1. دور إبراهيم وإسحاق ويعقوب وترجع حوادثه
إلى القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل
الميلاد وهو عصر عربي بحت قائم بذاته بلغته وقوميته وديانته وهو مرتبط بالجزيرة
العربية وبلغتها ألام وبقبائلها التي سميت فيما بعد بالعرب البائدة لانقراضها
والذين نزحوا بالألف الثالثة قبل الميلاد ، وان إبراهيم الخليل من العشائر
الآرامية النازحة ، وقد نبه القران الكريم
ذلك ، بربط صلة إبراهيم بالجزيرة العربية وبيت الله العتيق الذي هو أقامه وابنه
إسماعيل وهذا ما سمي عصره بعصر (الآباء الجوالين) ، وليس بفلسطين التي كانت دار
غربة له باعتراف التوراة / سفر التكوين بالقول : أنهم (غرباء وافدين طارئين على
فلسطين) وان ديانة ابراهيم الخليل اتصفت بالتوحيد المطلق وان الإله الذي كان
إبراهيم يدعو لعبادته هو ((أيل)) وهو رب العالمين جميعا وكتب على نفسه الرحمة وهو
الإله المطلق ، بدليل أن أسم إبراهيم أقترن بهذا الإله وهو خليل أي خل – أيل أي
صديق الإله وكذلك أسم أبنه يعقوب
(إسرائيل) وتعني أسرة – أيل أو تعني عبد الإله) وهذه الثقافة مازال العرب
يمارسونها كقولهم عبد الله وعبد الرحمن وغيرها تيمنا بالله تعالى وكذلك انسحبت هذه
التسمية على بني يعقوب ومن اتبعهم بـقولهم ((بني إسرائيل)) .
2. دور موسى وجماعته ويبدأ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وهو عصر متصل
بمصر قائم بذاته بلغته وثقافته وديانته ولا صلة له بدور إبراهيم الخليل. وإن الرأي
الحديث لدى الباحثين هو أن موسى كان قائدا مصريا في بلاط الفراعنة وكان يتدين بدين
التوحيد المطلق. وهؤلاء بطبيعة الحال يتكلمون اللغة المصرية وبها كلمهم موسى. فمن
المرجح أن لغة الشريعة التي أنزلت على موسى باللغة المصرية وهي الهيروغليفية. كما
أشار القران الكريم لهذه الحقيقة بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان
قومه) سورة إبراهيم. وهذا لا يمنع من أن يكون الرسول عاما ولغته خاصة لغرض تحقيق
الغاية من رسالته. لذلك يمكن تسميه هذا الدور بعصر الموسويين كما سماهم القرآن
الكريم بقوم موسى.
3. أما دور اليهود والتي جاءت هذه التسمية في القرن السادس قبل الميلاد نسبة
إلى مملكة يهوذا المسبية من قبل البابليين كما أسلفنا وهو عصر يهودي بحت قائم
بذاته بلغته (أرامية التوراة) وهي لغة الكهنة ثم أصبحت تسمى العبرية وبقية اليهود
يتكلمون لغة نفس الأقوام الذين تعايشوا معهم في بلدانهم. أما ديانتهم حيث كانوا
يمارسون عبادة الأصنام قبل السبي، وبعد السبي أصبح لهم إله اسمه (يهو) وهو إله
قبلي لا يمت بصلة لشعوب أخرى ، بل هو اله البراكين ويتصف بالقسوة لا يهمه من
العالم سوى اليهود الذين هم بقايا جماعة يهوذا المملكة المنقرضة (حسب رأي فيليب
حتي في كتابه تاريخ العرب) حيث كانت أسماء ملوك اليهود تقترن بهذا الإله ومنهم
يهوياكيم حاكم يهوذا وبعد وفاته حل محله يهوباكيت واعتبروا معبدهم معبدا قبليا أي
خاص بهم .
نستخلص من الأدوار
الثلاثة أعلاه بان عصر اليهود لا صلة له بعصر إبراهيم الخليل وأبنائه وكذلك لا صلة
له بعصر موسى ولم يكن لليهود وجود في العصرين أصلا.
الخاتمة
إن أكثر
الكتاب المتأثرون بالتوراة درجوا على ربط تاريخ اليهود بإبراهيم الخليل وقد اخذ
عنهم الكتاب العرب هذه الادعاءات المخالفة للواقع التاريخي دون تمحيص مدعين أن
جماعة من اليهود هاجروا مع إبراهيم الخليل من العراق إلى فلسطين واعتبروا إبراهيم
الخليل عبريا بمعنى يهوديا نتيجة الخلط بين كلمة العبري القديمة واليهود واعتبروا
أيضا بان اليهود يعودون إلى المكان الذي نشأ فيه إبراهيم وهو ارض العراق. والواقع
إن الكتاب العرب قد استندوا في نقل هذه الادعاءات إلى المصادر الأجنبية، وهي مصادر
يهودية دون أن يتنبهوا إلى التسلسل الزمني للحوادث التاريخية التي أظهرتها
الاكتشافات الأثرية.
وتبقى فرضية فاضل الربيعي
مثيرة للاهتمام، لكنها لا تزال تفتقر إلى الأدلة العلمية الكافية لتغيير النظرة
الأكاديمية السائدة. صحيح أن هناك نقاطًا تستحق البحث، مثل التشابه اللغوي وأهمية
اليمن في التاريخ اليهودي، لكن معظم الأدلة الأثرية والتاريخية تميل إلى تأكيد
ارتباط بني إسرائيل بفلسطين. إن إعادة قراءة التاريخ من زوايا مختلفة أمر مهم،
لكنه يحتاج إلى إثباتات أكثر قوة ليصبح بديلاً عن الرواية التقليدية.
لقد حان الأوان لان يعيد العلماء النظر في
المفاهيم المغلوطة التي ثبتها ورسمها لنا الحاخامات والكتاب
اليهود إثناء السبي البابلي ومقاربتها مع أفكار الدكتور فاضل الربيعي لتحقيق مآرب
ومقاصد خاصة فيصححونها ويضعون النقاط على الحروف تثبيتا للحقائق التاريخية.
عدنان الطائي
[1] . مجلة سومر، العدد 14، 1958، مقالة عبد الحق فاضل ص180 – 188،
[2] . العهد القديم، سفر
اشعيا الاية 19 – 18.
[3] الطائي ، عدنان مهدي ، نظرات في الاديان ، ص30
تعليقات
إرسال تعليق