قصة قصيرة رجعة نرام سين.. خيبة امل

قصة قصيرة

رجعة نرام سين.. خيبة امل

في ساعةٍ لا تُقاس بالزمن، ولا يُعرف لها مطلع، استيقظوا... فضّوا لحودهم، وبرحوا مثاويهم، كأن الأرض لفظتهم كما ترفض الذاكرة حلمًا قديمًا. قادهم ملكٌ جليل، نرام سين، محبوب الإله سين، وملك الجهات الأربع. خلفه حُرّاس البوّابات، وجنودٌ لا ظلّ لهم، يخطّون طريقًا فوق تُراب لا ينبض. كان الصمت مرافقهم... لا صهيل، لا هدير. فقط صدى خطواتهم يتردّد بين الجماجم، وصوت البوق – ذاك النافخ الأبكم – يُطلق نداءه كأنّه ينفخ في رماد التاريخ. نظر إليهم الملك، وجفونه تنتفخ بذكرى، وحنجرته تختنق بدهشة. قال: – أهذه أرضنا؟ أم أطيافها؟ أين رعيتنا؟ أين الأسواق؟ أين الممالك التي ضجّت باسمنا؟ سكت، ثم قال بهمسٍ يكاد يُسمع: – كأنها قرونٌ، لا أيام.

    امتطوا الخيول، وساروا. خببًا حينًا، ومهلًا حينًا، بين أطلالٍ تعرف أسماءهم، ولا تذكر وجوههم. الريح تعوي، تنخر في الصدور، وتهمس في الآذان: "لقد عدتم... متأخرين."رأوا الخراب، لا وطن. ساروا بين حجارة مطفأة، وجدران تسند فراغها. حتى إذا بلغوا تخوم المدينة، وجدوا أنفسهم غرباء في بلادهم، والمكان، كأنّه عتبة نُسيَت من سفر التكوين. قال أحدهم، لا يُدرى أهو جندي أم ظلّ حلم: – هل ما نراه خرابنا؟ أم ذكرى خراب غيرنا؟ فقال الملك: – كل خراب يشبهنا حين ننسى من نكون. ركبوا عائدين. لا يعرفون من أيّ موت جاءوا، ولا إلى أيّ نسيان يرجعون. وعادوا إلى مثاويهم... لا خيبةً فقط، بل دهشةً تُشبه الفقد. وأغمضوا أعينهم كما يُغمض القارئ كتابًا لم يفهمه... لكنه لن ينساه.

وفجأة استدرك الملك قبل أن يأمرهم بالعودة إلى مثاويهم، وقف نرام سين عند تخوم المدينة، وقد اسودّت الأرض في عينيه، لا من ظلمة، بل من فراغ. قال بصوتٍ حمل وجع الزمن وصداه: ارجعوا إلى مثواكم... هذا ليس وطنًا، بل مرآة كسرتها أيدينا ثم نسينا شظاياها في كلّ درب. إننا لم نُبعث كي نستعيد، بل كي نرى... أن من يملك الجهات الأربع، لا يملك موضع قدمٍ إن خانته الذاكرة. لقد انتصر النسيان، لا الأعداء. ونحن لم نمُت حين قُتلنا... بل حين صدّقنا أن المجد لا يموت.. عودوا، فالميت الذي يستفيق ولا يجد اسمه، يكون أعزل من أن يحيا، والغريب في أرضه، أحقّ له أن يبقى حلمًا في صدور الدفاتر، من أن يصير أثرًا تائهًا في ترابٍ لا يعرفه. عودوا... ودعوا الذاكرة تُتمّ نحيبها دونكم. ثم استدار، ومضى... ولم يكن في خطاه عجلة، بل يقين أنّ كلّ خطوة تمحو ظلاً كان ينبغي ألا يُبعث.

عدنان الطائي

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية