حين تنكسر الإنسانية على ضفاف نهر جاسم
شيراز الذاكرة… وشاهد القربان
قراءة في رواية "العروج إلى شيراز" وملامسة بعدها الإنساني
بقلم عدنان الطائي
حين نقرأ ما كتبته نور
هزبر عن رواية "العروج إلى شيراز" للروائي عباس لطيف، لا
نكتفي بمقاربةٍ نقدية لعملٍ أدبي، بل نجد أنفسنا في قلب تأمل إنسانيّ شاسع، يتقاطع
فيه التاريخ بالحاضر، والشعر بالحرب، والحب بالدمار، حتى لتبدو الرواية مرآة كبرى
لوجع الإنسان في كل زمان
تفتح الرواية جرحين في
آنٍ واحد: جرح التاريخ وجرح الحاضر. نهر جاسم لم يكن مجرد ميدان
معركة، بل كان ملتقى للألم المشترك، حيث لا تعود الحرب وجهًا للبطولة أو الشرف، بل
تصبح مأساة تمزق الطرفين بلا انتصار. كل قطرة دم فيه كانت ترجمة حيّة لتلك الكلمات
التي نطق بها الجندي جلال شاكر: "شهود وقرابين الحرب". كم نحن بحاجة إلى مثل
هذه الأصوات، التي تعترف بالخذلان قبل المجد، والتي ترى في عدوّ الأمس إنسانًا
ممزقًا أيضًا.
ورغم قتامة الحرب، كانت
شيراز، في بعدها الصوفي والتاريخي، ملاذًا للحلم والسكينة، وشعاعًا من نور يتسلل
عبر طبقات القسوة. حافظ الشيرازي لم يكن مجرد شاعر، بل مرشدًا روحيًا، وجسرًا بين
الأرواح المعذبة. وعشق "شاخ نبات" ليس تفصيلًا غزليًا، بل رمزٌ للجمال
الذي يبقى، رغم الدم، رغم الجنون، رغم سقوط الإنسان في مستنقعات الصراع.
لقد أعاد عباس لطيف تشكيل الحكاية بحيث لا
يكون الإنسان مجرد ضحية، بل باحثًا عن الخلاص، عن التوازن، عن السكينة، حتى في قلب
المحرقة. والميتاسرد في الرواية لم يكن لعبة شكلية، بل وسيلة لإعلان وعي الذات
الباحثة عن المعنى وسط عبثية العالم، في زمن تبتلع فيه الحروب كل معنى.
ورغم أنّ تعدد الأصوات لم يبلغ حدّ
"البوليفونية" بمعناها الباختيني الكامل، فإنّ الانسجام الأيديولوجي بين
الشخصيات يمكن قراءته لا كمحدودية فنية، بل كصرخة موحدة من أعماق الروح ضد الخراب،
وكأن الرواية تقترح أننا في أزمنة الحروب لا نملك إلا أن نتوحد في الألم.
لقد ربط لطيف الماضي بالحاضر، والحبّ
بالذاكرة، والحرب بالتحوّل الروحي، وجعل من "العروج إلى شيراز" تجربة
سردية فريدة. هي ليست فقط رواية، بل شهادة، وترنيمة، وحلم بعالمٍ تُشفى فيه الجراح
لا بالانتقام، بل بالموسيقى، بالشعر، وبالتطهير الإنساني العميق.
إنها دعوة لنبذ الحروب،
وإعلاء قيم الفنّ، والمحبّة، والتسامح، تلك التي وجدت لها موطئًا إلى جانب لحنٍ
باكٍ، في قلبٍ خرج من الأستار والحجب، ليغنّي للهو والطرب، بعدما جفّت في داخله
ينابيع الرصاص.
كتب عباس لطيف روايته كما يكتب الناجون
اعترافاتهم. وقرأنا نحن، كما لو كنّا نبحث عن خلاصنا الشخصي في شيرازٍ رمزية،
تحتضننا نحن الممزقين على قارعة الأوطان.
خاتمة نقدية:
الرواية بوصفها شهادة
ضد القتل باسم الأيديولوجيا لا يمكن قراءة العروج إلى شيراز بمعزل عن
التأمل في الجهة التي افتعلت الحرب وساهمت في استمراريتها، إذ تتسرب من ثنايا النص
إشارات واضحة إلى أن الجريمة لم تكن فقط في ميادين القتال، بل في العقول التي
شرّعت الحرب وزجّت بالشعوب في أتونها. لقد اشتركت دكتاتورية صدام حسين في العراق
مع عنجهية الملالي في إيران – وكلاهما يمثلان الإسلام السياسي الطائفي بأبشع صوره
– في قتل الإنسان، لا بالجسد فقط، بل بالمعنى والكرامة والمصير.
من خلال رصد الألم الفردي للجندي جلال،
والرحلة الفكرية لمير قرباني، وسحر الحب والتصوف في حياة حافظ الشيرازي، يُظهر
عباس لطيف كيف تُسحق الذوات الحرة في صراع لا ذنب لها فيه. لقد استُخدم الدين
تارة، والوطنية تارة أخرى، كمبررات لمحرقة بشرية ذهب ضحيتها شباب من الجانبين،
بينما بقي المحرّضون في قصورهم يفتلون خيوط الموت.
هنا، تصبح الرواية أكثر من مجرد عمل أدبي؛
إنها وثيقة إنسانية صادقة، تُدين كل من تواطأ في إشعال الحرب، وكل من ساهم في
تجريد الإنسان من فردانيته باسم الأيديولوجيا. إنّها دعوة صريحة لأنسنة التاريخ،
ومساءلة السياسة حين تتحول إلى أداة للدمار.
إنها بالفعل تقف شاهدة على جراح الماضي،
وموقفًا نقديًا نبيلًا في وجه الظلم والعنجهية والتطرف، سواء كان بزيّ ديني أو
قومي. لقد تجاوزت مقالتي هذه حدود التناول الأدبي لتصبح صوتًا للحق، ومرآةً لآلام
الشعوب المسحوقة بين سندان الاستبداد ومطرقة الأيديولوجيا.
تعليقات
إرسال تعليق