قصة قصيرة أنين الحب


 

قصة قصيرة

أنين الحب

الشمس لا تشكو من كثرة الغيوم حين أبحرنا معًا، أنا وهي، إلى بلاد الكناري.. إلى شاطئ الأحلام السعيد، يقودنا شراع الحب الشفيف. افترشنا خضرة الأرض، وتفتحت حولنا زهورٌ حمراء، وانقلبت همساتنا غناءً.. امتزجت معها زقزقات العصافير مع نسمات الصبح الندي، مبددةً كل عناء.

بعيدًا عن قهقهات الحب الهستيرية وشماتة الحاسدين، حلّقت أرواحنا طربًا في سماء الصفاء، حتى شعرتُ بنورٍ يحيطني، أفقدني توازني للحظة. استفقتُ من ذهولي لأجد نفسي بين ناعمات الطرف، شامخات الحسان، وبين ماءٍ وخضرةٍ ورمان، ونخيلٍ سامقات تظللنا حبًا ورضوانًا.

مخيالي ينزلق مني نحو الأفق البعيد كأفعى تلامس هامات الجبال، والنجوم الناثرات في الأفنان كأنها لآلئ مكنونة في أعماق البحار. ألوم نفسي: ما أنا بثلجٍ ولا نار، فلا أريد أن يختفي حبي كظلٍ على الماء، بل أريد له أثرًا وبيانًا. فالحب تجربةٌ لا متناهية للصمت، حضورٌ وحقيقةٌ في الوجدان، نبضُ قلبِ الأكوان.

غمرتني السعادة وأنا أُقلبُ لحظات الجنون وعصور النسيان، حتى خفق قلبي خشيةً من اللاتلاشي أمام كلماتٍ كانت على حافة الأزمان: (أحببتك.. أحبيني). فغرتُ فاهي، والحدس يوسوس في صدري، ظننته وهمًا من الأوهام. لكن الفرحة غمرتني ثانيةً حين شعرتُ بقربها، ألامس شرنقة أفكارها، عسى أن تلتف حولي كدودة القز، وأختلس من مقاصدها كلصٍ ناعم اليدين.

لكنها رحلت، وأنا في مسيس الحاجة إليها. لم أكن إنكيدو باحثًا عن الخلود، ولا شاعرًا خالد الهمام، والآخرون يدافعون عن أماكن مواتهم، بينما أنا ملتصقٌ بأرض الجنان، غارقٌ في الأحلام. أرنو إليها من بعيد، وهي منتصبةٌ فوق التلة كأنها نسرٌ آشوريٌّ يتأهب للطيران.

صرختُ بجرأة: أحببتكِ خلال لحظة جنون، حين كنتُ فيكِ ولهان.. بضع ثوانٍ تلاشت كفقاعة هواءٍ بلا حسبان، لكني سأحتاج إلى عصورٍ للنسيان، لأن حبها التصق بشغاف روحي كجنينٍ في الأرحام.

عند تلك الليلة، ارتشفنا آخر كؤوس الندامة، وتفاعل الوجد والحنين كالدخان مع أنغام العود الحزين. أمططتْ روحينا بساط الريح البغدادي، فجالت بين الكواكب والمجرات. لكن نفسي تسربلت في تيه بني إسرائيل، وجزئي الأكبر غمره بحر الكتمان.

لملمت شتات عظامي المنبطحة على بساط العشب الأخضر، الممتد على سفوح حبها، مستذكرًا صوتها الطروب كصوت ظبيٍ شارد. كانت أسنانها كالرضاب الخمري، ممزوجة بماء البنفسج البارد، ينساب من غدير السفوح. ارتشفتُ منه رشفةً، جعلتني مستويًا، مرممًا عظامي، أنظر إلى الأفق البعيد بنظراتٍ فاترةٍ متكسرة.

لوّحت لي بيدها الناعمة من خلف كيانها الأثيري، وابتسمتُ لها، لكنها كانت على حافة جبلٍ جليديٍّ نافر، بينما كنت أتلوى ألمًا واختناقًا. صرختُ، محطِّمًا قيد حبها، أتنهد.. أزفر.. ثم أتنهد.. أحبك حبَّ خلاصي من الحياة، والموت حيٌّ يتنفس بجانبي. وأنا في ثنايا السكون، وأنت في بدء النشور.. أنا الغموض، وأنتِ الوضوح.

استفاق مخيالي من خدره، وصداعٌ حطّم رأسي. يحيطني شعورٌ باللاجدوى في ليلةٍ من زمهرير. تساءلتُ: أمحضُ وهم؟ أم زلّةُ قلم؟ أم زلّةُ لسانٍ انبرى لها عقلي الباطني؟ أم هي لوحةٌ شكلها فنان؟

عدنان الطائي

 

 

 

 

 

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العربية واللغات الأخرى: تفوق لغوي أم تأثر متبادل؟

العنوان: بين العقل والعدم: رحلة فلسفية وعلمية لإثبات وجود الله

التقسيم البشري على أساس أولاد نوح: دراسة نقدية