قصة قصيرة.. أثر لا يزول
في صمت دار المسنين، حيث تتقاطع الذكريات مع ضوء الشمس المتسلل من النوافذ العالية، يجلس رجل تجاوز الثمانين من عمره، يحمل بين ضلوعه قلبًا مُثقلًا بالغربة والألم، ولكنه أيضًا عامر بالحكمة والكلمات التي نقشتها الأيام في ذاكرته. إنه مهاجر، غادر وطنه محمّلًا بأحلام الشباب وأثقال التاريخ، ولم يعد إليه أبدًا إلا في ذكرياته التي تومض كأطياف بعيدة.
لم يكن مجرد عابر في الحياة، بل كان كاتبًا وشاعرًا، يحمل بين أصابعه قلمًا يسجّل رحلات الفكر والتأمل، يغوص في أعماق الفلسفة، يعيد قراءة التاريخ، ويفكك النصوص الدينية بحثًا عن المعنى. لكنه اليوم يجد نفسه بعيدًا عن كل ذلك؛ فقد خانته الذاكرة التي كانت يومًا ميدانًا لصراعه مع الأسئلة الكبرى، وصار عاجزًا عن الإمساك بتلك الأدوات التي شكّلت هويته.
ثلاثة أبناء، لكن المسافة بينه وبينهم ليست مجرد كيلومترات، بل سنوات من الجفاء والخذلان. واحدٌ فقط يزوره مرة في الأسبوع، يمرّ سريعًا كزائر في متحف قديم، يلقي التحية ويمضي، تاركًا وراءه قلبًا يرتجف من الوحدة. لم يكن يحتاج المال أو العناية، بل كان يحتاج إلى الشعور بأنه لم يُنسَ، بأنه لم يصبح مجرد ماضٍ مهمل في ذاكرة من صنعهم بجهده وتضحياته.
لكن الألم لم يكن وحده نصيبه، فقد كانت زوجته رفيقة العمر، تسكن معه في الدار ذاتها، إلا أنها لم تعد تدركه كما كانت. خذلان الأبناء، الذين صنعتهم بيديها، أطفأ بريق عينيها وأغرقها في صمت طويل. كان ينظر إليها، جالسة على كرسيها المتحرك، غارقة في عالم من السكون، وقد هجرتها الكلمات كما هجرها الوعي. كانت المرأة التي كانت يومًا شعلة حياة، والتي حملت أحزانهم جميعًا، تهوي ببطء إلى ظلمة النسيان، وكأن قلبها، الذي ظل ينتظر أبناءها، قد تعب من الخفقان.
في داخله، كان يدرك أن الحياة لم تكن عادلة معه ومعها، لكنه لم يكن ممن يشكون أو يستسلمون، بل ممن يقفون عند الحافة وينظرون إلى الفراغ بعين الفيلسوف، محاولين فك رموز القدر. كان يؤمن أن الكتابة مقاومة، وأن الكلمات هي الأثر الوحيد الذي يبقى عندما يختفي الجسد. لهذا، حين شعر أن النهاية تقترب، لم يطلب إلا أن تُكتب قصته، أن تُحكى كما عاشها، بلا تزيين أو مواربة، ليظل صوته حيًا في ذاكرة الزمن.
لم يكن المرض هو ما أنهكه، رغم أن السرطان قد حاصر جسده كما حاصرته الغربة، بل كان الألم الحقيقي هو غياب الدفء الإنساني، الشعور بأن من كان يومًا مركز الكون بالنسبة لأبنائه، أصبح هامشًا بعيدًا في حياتهم. كان يسأل نفسه: هل الحب يُنسى؟ هل الجهود تذهب سدى؟ لكن الفلسفة التي آمن بها لم تمنحه إجابة، بل تركت له التساؤلات مفتوحة.
ورغم كل شيء، لم يفقد كرامته، ولم يطلب شيئًا أكثر من الاعتراف بوجوده. كان يريد فقط أن يُسمع، أن يُقرأ، أن يُفهم، حتى بعد رحيله. فالموت ليس النهاية لمن يترك أثرًا، وهكذا أراد أن يكون: أثرًا خالدًا في الحروف، وقصة تحكى للأجيال القادمة عن رجل عاش بين الكتابة والصمت، بين الحكمة والألم، بين الوطن والمنفى.
في آخر يوم كتب فيه، أمسك بالقلم بيد مرتجفة، لكنه كتب جملة واحدة بخط باهت: "ليس الوداع ما يؤلم، بل الذكرى التي لا تجد صدى في قلوب من أحببتهم." ثم أسند رأسه إلى النافذة، مستسلمًا للضوء المتسلل... وكأنها كانت لحظة المصالحة الأخيرة مع الحياة.
لكن الحياة لم تكن قد طوت صفحته بعد. ففي أعماق ذاكرته المتعبة، كانت بقايا وعي تقاوم النسيان، تحاول إعادة ترتيب الذكريات التي بدأ طائر الزهايمر يعبث بها. كانت الأيام تتشابه، لكن بين لحظة وأخرى، كان يتذكر بيتًا من قصيدة كتبها، أو اسم كتاب ألّفه، أو حتى رائحة الوطن التي لم تفارقه رغم سنوات الغياب.
في أحد الأيام، وهو جالس أمام النافذة، أغمض عينيه، فحملته ذاكرته إلى هناك، حيث الأزقة القديمة تفوح برائحة الخبز الطازج والقهوة المرة، حيث أصوات الباعة تصدح في الصباح الباكر، وحيث كان يجلس في المقهى الشعبي يستمع إلى النقاشات الساخنة عن السياسة والحياة. كان يتذكر صوت أمه وهي تدعوه لتناول العشاء، ووجه والده المنهك بعد يوم عمل طويل، وتلك السماء التي كانت أكثر زرقة مما يراها الآن.
لم يكن الوطن مجرد مكان، بل كان شعورًا يسكنه، يسري في دمه حتى وهو بعيد عنه. كان يتمنى لو يعود ليطأ شوارعه، ليشعر بملمس الحجارة تحت قدميه، لكنه كان يعلم أن ذلك لن يحدث. ومع ذلك، لم يكن بحاجة إلى السفر ليكون هناك، فقد كان الوطن يعيش في داخله، نابضًا في ذاكرته التي قاومت النسيان حتى اللحظة الأخيرة.
وفي إحدى الليالي، عندما كانت العتمة تلف المكان، شعر بشيء مختلف. لم يكن ألمًا هذه المرة، بل كان هدوءًا، سلامًا لم يشعر به منذ زمن. كأن كل شيء قد وجد مكانه أخيرًا، كأن الطائر الذي كان يحلق بلا وجهة قد استقر على غصن الذكرى الأخيرة. أغلق عينيه، لكنه لم يكن يودع الحياة، بل كان يحتضنها للمرة الأخيرة، بكل ما حملته من ألمٍ، وحبٍ وخذلانٍ وأمل.
وهكذا، ظلّت قصته شاهدة، مكتوبة بحبر الألم وحروف الحكمة، تروي رحلة إنسان عاش في الظل لكنه أنار بكلماته دروبًا كثيرة، ليبقى أثره حيًا... حتى بعد أن توقف الزمن عن العد.
عدنان الطائي

تعليقات
إرسال تعليق